عندما طُلب مني أن أكتب حول موضوع خطوط التماس، أدركت أن كلمة تماس بالنسبة إلي تعبّر اليوم عن فكرة التقسيم والانفصال. يبدو لي من المستحيل أن تكون هذه الكلمة قد حملت يوما ما معنى آخر، إذ أنها تجسد فكرة الحرب الأهلية بعينها، تلك الحرب التي عشناها وعشنا انطلاقا منها حروبا أهلية أخرى.
كلمة تماس جزء من موسوعتنا الحربية ولن تشمل معناها الأصلي الذي يعبر عن المس وفكرة التجاور، في غياب السلم الحقيقي. فنحن لا نعيش بعد في زمن السلم، وهذا ما أكدته، وللأسف، مجموعة من الأحداث، خاصة تلك التي حصلت في بيروت في أيار 2008.
في أيار 2008 سمعنا مجددا صوت طلقات النار في الشوارع، والمحزن أن أكثر من مائة وخمسين شخصا لقوا حتفهم في ذلك الأسبوع. لكن الأمر الذي لفتني بشكل خاص كان مشهد "الرينغ" المهجور والمسدود بالمتاريس. فهذا المشهد كان صورة مطابقة عما كان عليه الرينغ في الثمانينات خلال الحرب. لم يتغير شيء في الصورة. لربما كانت هذه الصورة جزءا من الزمن والتاريخ يحمل ذاكرته الخاصة. أحداث تُمثل أو سيعاد تمثيلها في المسقبل.
هذا الإنقسام المادي والمعنوي لبيروت والذي جسدته خطوط التماس كان في صلب عملين من أعمالي أرغب بالتأمل فيهما من منظور اليوم: فيلم الفيديو الوثائقي "هنا وربما هناك" (54 دقيقة – 2003) ، والقصة الخيالية القصيرة التي تحمل العنوان ذاته (1996-2003).
في كلا العملين، يبدو المكان الملقب بخط التماس أو بالخط الفاصل، مركزيا كصورة وكرمز، ومع ذلك لا يتم تعريفه كما انه لا يقبل التمثيل. يمكن القول إنه بالرغم من الوجود المادي لخط التماس، فهو أصبح مع الزمن خطا معنويا يجزّئ هذه المدينة ويقوّض المظاهر المختلطة من حياتها بطريقة غير قابلة لأن تُعكس.
في 1993 كنت طالبة في حقل السينما وشعرت بحاجة ملحّة لرواية وربما تصوير الحروب اللبنانية بصريا. بعدما شاهدت الفيلم "راشومون" قررت أن أصنع فيلماً روائياً طويلاً مستوحى منه ومبنياً على الأسس ذاتها. انما كان عليّ نقل القصة ووضعها في سياق الحرب اللبنانية. في 1996 بدأت العمل على تطوير أشخاص الفيلم، وبقيت لسنوات عدة أغذّي رغبتي في إنجاز هذا الفيلم الروائي. وبالرغم من ذلك لم أعمل بشكل جدي على المشروع بسبب تعثري بأسئلة مهمة ووثيقة الصلة بالموضوع.
كيف يمكنني إعادة خلق ديكور الحرب؟ هل إعادة خلق أحداث تلك الفترة المأساوية بشكل خيالي أمر مناسب الآن؟ هل لا يزال من الممكن أن نؤمن بتصوير الحروب بطريقة واقعية وتقريبا طبيعية؟ هل من المناسب العمل مع ممثلين محترفين ليجسدوا شخصيات أبطال الحروب؟ وهل من الممكن أصلاً تصوير أو رواية هذه الحروب؟
هل بإمكان السينما، التي بالكاد لها تاريخ وتفتقر إلى صناعة حقيقية في بلدنا، أن تنجح في تمثيل الحروب اللبنانية؟ والأهم من ذلك هو أنه تم صناعة عدد كبير من الأفلام المثيرة عن الحروب في أماكن أخرى من العالم، وبالتالي أليس من المفترض أن تدفعنا خصوصيات الحروب اللبنانية إلى إعادة التفكير بطرق وأساليب تأليفنا السردي.
بدأت الشكوك تراودني بشأن هذا الفيلم الروائي، ومع ذلك فإن الأسئلة حول كيفية تمثيل الحروب اللبنانية وكيف يمكن لنا أن نكون شهوداً عليها بقيت تنتابني. كيف يمكنني التعامل مع تاريخنا الحديث، أي صورة له يمكنني الاحتفاظ بها. أي صورة له سأعاود خلقها؟
بعض الحقائق والمآسي والتجارب لن تصلنا وستبقى طي الكتمان، مدفونة، لن نتمكن من أن نشهد على وجودها، يمكننا فقط افتراض أنها موجودة ولكن مفقودة. هذا نتيجة لآلية الذاكرة، بتشوهاتها وبامكانية النسيان وحتى بحاجة البشر للنسيان. كما أن ذلك عائد لاستحالة مهمة تجميع كل الشهادات والوثائق المتعلقة بالاحداث السابقة بسبب ضيق الوقت ولكنْ أيضا، وفي حال الحروب اللبنانية تحديدا، بسبب وجود أمراء الحرب في السلطة حتى اليوم، ما يمنعنا من التنقيب في هذه الأحداث والحكم عليها، يضاف إلى هذا كله أن الحرب لم تنته بعد.
لذلك، ومع مرور الأعوام أصبح واضحا بالنسبة لي أن الطريقة الوحيدة لإمكانية تصوير أو رواية الحروب اللبنانية تكمن في تقبل عدم قدرتنا على تصويرها. يمكنني فقط اقتراح محاولات للتصوير وأجزاء من التاريخ وأجزاء من الحقيقة وقصص شخصية. وفي معرض دحضي لفكرة الحقيقة الفريدة سأحاول طرح خطاب مضاد للخطاب الرسمي أو لغياب أي خطاب رسمي.
أجد نفسي منسابة بين الاغراء أو حتى الحاجة لسرد تاريخنا وبين استحالة الوصول إليه بشكل كامل. وقد تبين لي أن شكلي التعبير، الوثائقي والخيالي ، محدودان بأساليبهما في التمثيل. أصبحت مهتمة بفكرة تغبييش هذين النمطين وبإعادة النظر في العلاقة بين الحقيقة التاريخية والخيال. ركزت على تجميع و/أو انتاج وثائق أو مادة أرشيفية بالإضافة إلى عناصر خيالية لمقاربة العلاقة بين القصص الفردية والتاريخ الجماعي.
يمكن القول إن الكثير من الفنانين من أبناء جيلي الذين أنجزوا أعمالاً منذ مطلع التسعينات وحتى يومنا هذا في بيروت قد أثاروا أسئلة مشابهة في أعمالهم. من المؤكد أن ذلك لم يأت صدفة. فأعمال هؤلاء الفنانين تجد لها أصداء في أعمال فنانين آخرين من مناطق أخرى في العالم هم أيضا مهتمون بالقدر ذاته بمسألة استخدام الوثائق كوسيلة لمقاربة التاريخ وآلية الذاكرة.
الكاتب والقيّم على المعارض أوكوي إينويزور يستنتج في مقالة له نشرت في كاتالوغ " أركايف فيفر" (حمى الأرشيف)، وهو المعرض الذي نظمه في مركز التصوير الدولي في نيويورك (ICP) عام 2008 "في إطار معرض Archive Fever يبرز الفنان بوصفه عنصرا تاريخيا للذاكرة، بينما يبرز الأرشيف كمكان تتم فيه ملامسة مسائل تتعلق بالماضي عبر الانبثاق الصارم للموت والدمار والتحلل. لكن، وخلافاً للأشكال المعاصرة لفقدان الذاكرة، التي يصبح الأرشيف بمقتضاها موقعاً للأصول المفقودة وتضحي الذاكرة فاقدة لذاتها، يحصل فعل التذكر والتجدد في داخل الأرشيف نفسه، وهناك أيضاً تقوم اللحمة بين الماضي والحاضر في الفسحة غير المحددة بين الحدث والصورة وبين الوثيقة والنُصب".
هجرت مشروع صناعة فيلم روائي وقررت بدلا عنه أن أقوم بعملين: الاول عبارة عن إصدار قصة قصيرة مبنية على بنية فيلم "راشومون" بحيث يُنقل سياق أحداثه إلى بيروت في الثمانينات. سيشتمل هذا العمل على صور هي عبارة عن وثائق لبيروت خلال الحرب وصور بورتريه من مجموعة "المؤسسة العربية للصورة"، بالاضافة إلى بعض الصور التي التقطها فنانون معاصرون حديثاً. لن يتم فصل العناصر الخيالية والمادة الأرشيفية، إنما يتم استخدامها بشكل متساوٍ في عملية سرد الرواية. المشروع الثاني عبارة عن فيلم فيديو يصّور في بيروت على طول ما كان يعرف بخط التماس الذي قسّم بيروت إلى منطقة غربية وأخرى شرقية. سأتّبع في التصوير "الأسلوب الوثائقي" مستخدمة صورا من الأرشيف بهدف قص الرواية. وبالرغم من ذلك فإن شهادات الأشخاص الذين سأقابلهم ستشتمل على عناصر خيالية. سأحاول استرداد صورة مفقودة لبيروت، صورة تجزأت في مخيلتي منذ سنوات كثيرة. كيف لي أن أصور بيروت؟ هل تصوير بيروت المجزأة ممكن فقط عبر صورة مجزأة هي أيضاً؟
في الفيديو "هنا وربما هناك"، حيث كنت أعلم أن آلاف الأشخاص اختطفوا ولم يُعثَر في معظم الحالات عليهم كما بقيت ظروف خطفهم مجهولة، سأسأل السكان الذين التقيهم بينما كنت أعبر بيروت في محاذاة ما كان يوصف بخط التماس، ما إذا كانوا يعرفون شخصا اختطف "هنا" خلال الحرب.
بالأساس كنت قررت استخدام اسم مبتكر أو اسم شخص سمعته بينما كنت أعبر بيروت سعياً لإجراء تحقيقي. الفكرة كانت أنه مع كل مقابلة تكبر "الاشاعة" ويصبج الشخص "المبتكر" شخصاً "حقيقياً" ليكتشف المشاهد سريعا أن هذه الشخصية غير حقيقية وأنها كانت مجرد أداة تفعيل لعملية الذاكرة ولكشف تعدد الخطاب الموجود حول الحرب بالاضافة إلى عظم المأساة.
عندما بدأت التصوير، أدركت الحدود الأخلاقية لمشروع من هذا القبيل ولجوانبه الفكاهية. ومع أنني توقعت سماع تجارب مأساوية كثيرة، إلا أنني صعقت من هول ما سمعته. تقريبا في كل شارع عبرته قابلت شخصا على الأقل عانى من الفقد خلال الحرب. الحقيقة كانت أسوأ مما كان يمكن لي أن أتخيل. عندما بدأت رحلتي واجهتني على الفور جروح وأوجاع الناس الذين قابلتهم وكشفوا عن قصصهم أمام كاميرتي. بعضهم كان مضى على مآسيهم العائلية أكثر من عشرين عاما. لم يعد بإمكاني أن أمثل خدعة "الشخصية المبتكرة". أقول هذا من غير أن أعني أن الخيال كان مستحيلا، بل لأقول إنه في هذا الاطار تحديدا أصبح الخيال خارج الموضوع. لو أنني قررت المضي في مخططي الأول لكنت شعرت بأنني منتحلة.
تخليت عن فكرة "الشخصية المبتكرة" وأخذت أصور بينما أسأل من أقابلهم: هل تعرفون احدا خطف هنا خلال الحرب؟ استمر التصوير ثلاثة أسابيع تتبعت خلالها خريطة لبيروت. وبينما عبرت المدينة اكتشفت أمكنة مثقلة بالتاريخ. قسمت رحلتي عبر وقفات عند مواقع الحواجز التي كانت موجودة على امتداد خط التماس، مستخدمة صورا من الأرشيف لتحديد مواقعها الحالية بدقة. أحيانا كان يعجز الناس عن تحديد مواقع تلك الحواجز، وعندما ينجحون في ذلك غالبا ما كانت هذه المواقع غير متطابقة مع المواقع التي تحددها صور الارشيف. هكذا كان الحال مع معبر المرفأ الذي يقابل اليوم مكب نفايات النورمندي المحاذي للبحر في منطقة أعيد استثمارها من قبل سوليدير. ولكن المثير أيضا أن بعض هذه النقاط ما زالت تماما كما كانت عليه في الصور التي التقطت عام 1989، مثل معبري المتحف-البربير والسوديكو.
وبينما كنت أصور بدون اعداد مسبق، سجلت الأحاديث التي استثارتها الصورة وأسئلتي وفي الوقت ذاته التي استثارتها آلية الذاكرة. هذه العملية تسمح للماضي بأن ينبعث في الحاضر السردي كما تفتح المجال أمام إمكانية إضافة قصص أخرى عديدة في المستقبل.
الناقدة الفنية كايلين ويلسون غولدي كتبت: "إن مجاورة الصور الساكنة والمتحركة لا تعمل فقط على تحديد إيقاع العمل بصرياً، بل تخلق أيضا فصلا مؤقتاً بين الماضي والحاضر. هذا الفصل يتضاعف عندما يتكلم الأشخاص الذين تقابلهم جريج. فهم يجيبون عن أسئلتها بقصص عميقة وغامضة في آن، مرتبطة بالموضوع الاساس أو بعيدة عنه. تنساب بين الحقيقة والخيال، بين ما هو تذكّر مباشر لحوادث سابقة وما هو تأويل لذكريات يتم استدعاؤها إلى الحاضر. وكما يقترح عنوان الفيلم، فهذه القصص موجودة هنا وهناك في الوقت عينه".
– بتعرف شي عن حدا انخطف؟
– هيي صارت معي مرة الحادثة. وصلت على المعبر، قال وراق البيك آب. أعطيت الوراق. بنط واحد بيقللي أهلاً ... شو أهلاً؟ أخد الوراق وبلش الإتصالات. بعد شوي أخدوني على ساحة العبد. يللي بعد المتحف، بعد ساحة العدلية، هيدي بيسموها ساحة العبد. كان عندهم مركز هونيك. قعدنا. كنت اشتغل عند ناس الله يحميهن، كانت كتير أخلاقهم عالية من بيت الهبر. قللي إزا بيصير معك شي بتقلهن أنا بخص الحج هاون. كان هونيك الملقب، هوي من بيت الهبر. ولما قلتهن أنا بخص الهاون ما الهاون، سحبوني عالمركز، اتصلوا فيه، واللا بيجيلي واحد بيفوت بيقللي: من وين بتعرفني وليه؟ قلتلهن أنا بشتغل عند أبو طوني، إيلي هبر وقللي أيّ شي بيصير معك اتصل فيك. قاللي حدن دقرك، حدن قرب شي صوبك؟ قلتلو لا لا لا... بس أنا شو كنت؟ كنت خالص. كان معي شخص نزلوا لتحت. كان معي شخص بالقوضا، إزاز فوميه... نزلوه لتحت... ما عدت شفت شي.أنا أخدوني. ضهروني... قال خلص ولا يهمك... قلتلن لأ ما بضهر ألا ليجي معلمي أبو طوني. تلفنيلو لإجا. قطّعوني عالمعبر ورحت. وبعد شي خمس ايام أسبوع لارتاحت أعصابي، رجعنا فتنا. كان كل شي إنو على أساس بدهن ولاد خالتي. ولاد خالتي كانو ساكنين بالأشرفية بناية الجيش بيقولولا، على كرم الزيتون. لأنو هنّي كانوا بالحزب القومي السوري، وبدهن ياهن. والبيك آب كان بإسم ابن خالتي. عرفت يومتها، قمت تركت البيك آب واشتريت بيك آب غيرو. ومن يومتها قولي الحمدالله، ضلينا نروح ونجي، الله حمانا.
– يليي أخدو معك ردّوه؟
– لأ، ما عرفت شي عنو أبداً، لأنو أنا سألت، يللي بينزل لتحت خلص! هيدي يومتها كان بساحة العبد.
– تحت شو يعني، غرفة؟
– زيّ ما كان عنّا غرف كتير هون، كان عنّا غرف كتير هون. يعني لا تواخزيني، بس برج المرّ بيشهد ع هالشي كمان. كان عاملينو تحت، وغيره غيره. يعني إزا بدنا نحكي عن الأحزاب هولي، نحكي عن الأحزاب يللي عنّا. ما نفس الشي!
مع تتبعي لخط التماس الجغرافي مستخدمةً صوراً أرشيفية ومرددة السؤال ذاته، أكون قد خلقت أداة أعمل من خلالها على تجميع ومراكمة مجموعات من السرد هي مثل أجزاء كثيرة من التاريخ. هذه الأجزاء هي ذاكرة ونسيان في الوقت ذاته، أجزاء من وحدة غير مكتملة تم تجميعها لاحقاً. وهي بينما يعاد ترتيبها أو تفسيرها تصبح مجاورة للخيال.
بقيامي بذلك آمل أن أكون قد استرجعت خطاباً أساسيّاً. أن أكون قد جعلت ذلك الخطاب مرئياً ومسموعاً بعدما كان مطموساً بقصد أو عن غير قصد، أو أنه كان موضع تجاهل. هذا ضروري لأن ذلك الخطاب له دلالات على فترة خاصة من تاريخنا، ضروري حتى حين يصبح خيالياً لأنه شاهد على التجارب الانسانية القوية والنادرة والتي، مع أنها مرتبطة بواقع معين، تكتسب أبعادا عالمية. وبينما تضع علامة استفهام على منهج التوثيق، فإن تنوّع القصص الكثيرة التي رويت، وتراكمها وتردادها غير المتساوي، تربط كل تجربة شخصية بتلك الجماعية، ما يجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الوصول إلى فكرة الحقيقة الفريدة.
كايلين ويلسون غولدي كتبت "مثلما يقوم "هنا وربما هناك" بكشف الصدع بين الماضي والحاضر وبين الحقيقة والخيال، فإن الفيلم نفسه يتنقل بين عناصر توثيقية وممارسات فنية. إن جريج تنتقل بشكل منهجي من موقع إلى آخر. تعيد طرح مجموعة الأسئلة ذاتها وكأنها عالمة بوصف الاجناس البشرية تقوم ببحث ميداني. ومع ذلك فإن هنا وربما هناك مترابط بأجوائه وبنحو غير محكم. لطالما كان النهج التوثيقي برمته موضع سجال، وجريج بدورها تجبر المشاهد على التفكير في معنى التوثيق عبر فيلم أو فيديو. فجريج تستخدم في فيلمها بعض العناصر التقليدية في صناعة الأفلام الوثائقية، ولكنها كذلك تنحرف عنها. تتدخل بشكل فاعل مع أشخاص فيلمها. لا تستخدم صوت الراوي ولا تقدم إحصاءات، وليس من أدلة دامغة أو سريعة لتدعم تاريخ الحرب الأهلية. فالفيلم لا يقدم دراسة نهائية عن موضوع الخطف أو المفقودين. هنا وربما هناك يطرح الأسئلة التالية: ما هي النظرة إلى الحرب الاهلية اللبنانية من قبل هؤلاء الذين عاشوها؟ هل تم حل الصراع بالفعل؟ هل تم التطرق إلى أسبابها ونتائجها بشكل كاف أو حتى مناسب؟".
مع أن التصوير تم في 2002 فالحرب كانت موجودة في معظم القصص التي سُجّلت. هي كانت موجودة أيضا في ما رفض الناس أن يقولوه وفي ما خافوا أن يعبروا عنه، أو ما لم يتذكروه، وفي الاحاديث التي رددها شخص بعد آخر.
– بتعرفي شي عن حدن انخطف هون بالحرب؟
– إيه في ابن خيي، بس مش هون. أظن فوق عالجمهور انخطف. ابن خيي وابن خالو. انخطفوا أثناء الحرب. بأيام... ما بقدر قول، بخاف.
هون قصقص. طريق الطيونة هون. هاي كلها طريق الطيونة. عندك المتحف من هون. ليكي، أنا بتذكر كانت مارقة سيارة وفيها شب وتقنص.
في كل من الفيديو والقصة القصيرة أؤكد على الخسائر والثغرات في الذاكرة والتاريخ متقبلة إياها كجزء لا يتجزأ من السرد غير الخطي، مشيرة إلى عدم إمكانية الوصول إلى رواية كاملة للأحداث.
تقع أحداث القصة القصيرة "هنا وربما هناك" في زمن الحرب الأهلية في منطقة خط تماس في بيروت. تعمدت أن أبقي جغرافية المكان مبهمة، وكذلك كل معلومة تفصح عن هوية جماعة أو ميليشيا معينة. ومع ذلك فكون مكان وقوع القصة قريباً من منطقة خط التماس مهم لإيصال فكرة تجزئة المكان وتقسيم المجتمع، بالاضافة إلى خلق جغرافيا مُتخيّلة تعكس، مع ذلك، حقيقة مأساوية.
ايلول 1987. في أحد أحياء بيروت عند خط التماس، يتحرى رجل عن إختفاء أو احتمال مقتل وحيد صالح: ثلاثيني، أسمر البشرة وملتح. في ذلك اليوم كان يرتدي سروالا رماديا وقميصا ابيض: كان ذلك في 15 حزيران 1986.
حادثة اختفاء واحتمال قتل وحيد صالح المأساوية يرويها خمسة هم أبطال الرواية، بمن فيهم القتيل نفسه. روايات الأبطال تتعاقب في محاولة وهمية لإعادة تركيب الحادثة من خلال مفاتيح معينة والتفحص المتقاطع. إن الثغرات في القصة تحول دون وصولنا إلى حقيقة فريدة.
زياد (قناص)
أذكر جيدا هذا الحادث. كانت هذه آخر مرة أطلق فيها النار من على سطح هذا المبنى. لم تكن العملية سهلة، كان الرجل يركض بسرعة وفي كل الاتجاهات. بعدها اضطررنا إلى التخلي عن هذا المبنى ووجدنا لانفسنا مخبأ جيدا في زاوية أخرى هادئة.
زاهي (صديق أمنة)
كنت منهمكا بالتفكير عندما سمعناه يقترب. دخل الغرفة ونظر إلي وعلى وجهه تبدو علامات التوتر. وبخطوات سريعة ومدروسة توجه نحوي. فقدت القدرة على التفكير وعلى الحركة. مد يده بعنف ليسترد سلاحه. شعرت بالخوف. ماذا يمكن أن يفعل بنا؟ أزحت ذراعي بشكل تلقائي هربا من يده. كانت أصابعي المتشنجة تتمسك بالمسدس عندما حاول للمرة الثانية أن ينتزعه مني. خرجت الرصاصة من المسدس بشكل مفاجئ، لم أكن أنوي قتله، فأنا لست مقاتلا ولا مجرما. أصابته الرصاصة في الراس، وسقط أمامي.13
كلٌ من الأبطال يزعم أنه هو الذي قتل وحيد صالح، وهو ما يثير التساؤل حول المسؤولية، وما يجعل أيضا كلاً منّا لاعباً محتملاً في هذه الجريمة، وبناء عليه يجعل كلاً منّا لاعباً في هذه الحرب.