تناغم مثمر
في صيف العام 2007، اتصلت بي إحدى المسؤولات الناشطات من منظَّمة "كفى عنف واستغلال"، لتطلب إليّ القيام بدراسة تتناول "قتل النساء" (femicide). وقد حدّدت المنظَّمة مجتمع الدراسة: قالت إنها ترغب بدراسة المسألة بواسطة وثائق محاكمات قتلة النساء في لبنان.
كانت هذه هي المرّة الأولى التي أقوم فيها بدراسة لم يُحدّد عنوانها فحسب، إنما أيضاً العيّنة المنوي دراستها. فأنا أفضّل، في الغالب، أن أنفّذ أبحاثاً تجيب عن أسئلتي الخاصّة، وأختار مواضيع دراساتي ببعض المزاجية؛ ومسايرة مزاجي كان ضمان استمرار شَغَفي بالبحث، فلا يصبح واجباً مفروضاً ومهمّة ثقيلة. وما سمح لي بهذا الترف أن اهتماماتي كانت، في الغالب، غير بعيدة عن اهتمامات المنظَّمات الداعمة مالياً للأبحاث العلمية. لذا تردّدتُ بادئ الأمر أمام قبول المهمّة؛ لكن المنظَّمة أصرّت على تكليفي، وحسناً فعلَتْ! فهي وفّرت لي المغامرة في أرض
جديدة تعلّمت خلالها الكثير. العاملون في البحث يدّعون أن التعلّم والاستزادة منه هما وقود الإثارة في هذه المهنة الشاقّة، ويزعمون أن المعرفة والاستزادة منها هما مكافأتها الثمينة.
الجدير ذكره، أن معرفتي في المجال القانوني لم تكن تتجاوز ما تحتاج إليها الباحثة عندنا في ميدان الدراسات النسائية؛ هذه المعرفة وفّرها لنا باحثات وباحثون في هذا المجال؛ أي أولئك الذين قاربوا الموضوع من منظور قانوني أو تشريعي أو حتى إيديولوجي إلخ. وهي منظورات جاء البحث عبرها، بالنسبة لي، كافياً. وأرجّح أنه كافٍ لغيري من غير الاختصاصيين بسبب الثبات النسبي في أوضاعنا التشريعية والبطء في مسارات تعديلها.
إلى ذلك، فإن وثائق المحاكمات كانت مواضيع لدراسات قام بها أكثر من خمسة باحثين وباحثات عندنا. لكن أيّاً منهم لم يقارب موضوع قتل النساء ولم يقرأ وثائق المحاكمات عندنا، من منظور جندري. هذا المنظور ميّز أغلب دراساتي. فبدا لي أن المنظَّمة غير الحكومية المذكورة قد استشرفَتْ أن إضافتي إلى الموضوع المبحوث سابقاً، وبرغم تناول وثائق المحاكمات كمجتمع للدراسات التي تناولته، ستكون عبر قراءة لتلك الوثائق من هذا المنظور، بالتحديد.
هكذا، حين تقدّمتُ بتوصيف مهمّتي وشروط تنفيذها إلى منظَّمة "كفى عنف واستغلال"، كتبتُ أنني سوف أقدّم مراجعة تحليلية لوثائق محاكمات قَتَلة النساء من منظور جندري. أي، أنني سوف أقوم بتفكيك هذه الوثائق في السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي يحيط بالجريمة وبالمحاكمة، من موقع متيّقظ للأثر الذي تُحدثه المنظومة الجندرية على الشروط المحيطة بالجريمة وعلى مجريات المحاكمة. وبأنني سوف أعمل على إبراز المعنى والقيمة المسبغَين على سلوك كلّ الفاعلين ذوي الصلة؛ وذلك تبعاً لكونهم رجالاً أو نساءً، وبحسب الحالة.
أقبلتُ على المشروع، إذاً، بترقّب المغامِر في أرض يجهلها، لكن بيقين "المؤمن" من أنه يمتلك أداة معرفية تسمح له بجلاء مكامن منها لا تزال خافية عن الأعين. وقد بيّنَت نتائج البحث أن ما ميّز المقاربة الجندرية التي توسّلتُها عن المقاربات الأخرى، هو قدرتُها على كشف الديناميات التي تحكم العلاقات بين النساء والرجال في السياق الثقافي والاجتماعي، كما في جلائها للعنف المستشري في الأسر التي وقعت فيها هذه الجرائم. فلا تعدو الجريمة أن تكون فعلاً شبه حتمي في مسار من العنف الجسدي والنفسي المتصاعد لولبياً، والمحمول، في شقّ أساسي منه، على قاعدة المنظومة الجندرية وعلى تقلّباتها.
تكمن أهمية هذه النتيجة في كونها موثّقة تفصيلياً من عناصر في سرديّات المحاكمات، وبأنها لا تتكئ على الإيديولوجيا المناهضة للعنف في كلّ أشكاله، ولا حتى على الاستدلال المنطقي. هذه النتيجة رفعتْها منظَّمة "كفى عنف واستغلال" حجّة، من الصعب دحْضها، أمام المشرّع وأمام صانعي القرار؛ هي رفعتها ترويجاً ودعماً لمشروع "قانون حماية المرأة من العنف الاسري" المقترح من قبل "التحالف الوطني لتشريع حماية المرأة من العنف الأسري"؛ فالدراسة تبيّن بوضوح أن إبرام قانون ينطوي على تدابير وقائية وأخرى حامية وداعِمة للضحية المحتَملة ومعاقِبة للجاني... هذا القانون الشامل هو الوسيلة الأكيدة، لا لمنع العنف عن المرأة فحسب، وإنما لوضع حدودٍ تمنع المعنّف من تطبيق ما يسمّى بـ "عدالته الخاصّة"؛ الأمر الذي لا يحمي المرأة من العنف ومن القتل فقط، بل هو يحمي الرجل، في الوقت نفسه، من أن يصبح قاتلاً؛ كما يُنقذ الأسرة المعنيّة من وصمة القتل، ومن تداعياته المدمّرة على أفرادها.
إلى ذلك، فإن تحليل خطاب الفاعلين على مسرح المحكمة ظهّر دور القضاة وبيّن أهمية التعاون معهم؛ وهو ما أفضى إلى البحث عن إمكانية عقد شراكة مع هؤلاء واشتمال فئاتهم في مسعى النضال من أجل إقرار القانون المذكور. ما أودّ قوله هو أن نتائج الدراسة التي نفّذتُها بطلب من منظَّمة غير حكومية جاءت لتدعم جهودها الترويجية والتخطيطية لأنها أرست هذه الجهود على قاعدة بحثية علمية. وهي كانت غايتها الصريحة من إجراء هذا البحث.
هذا البحث (والكتاب الذي نشر فيه) ثمرة جهد وتعاون وثيق بين الباحثة والمنظَّمة غير الحكومية التي رعته، فضلاً عن الجهة التي موّلت ترجمته. وهو تعاون بدأ مع الشروع في البحث، ولم يتوقّف حتى الآن. فتحقيق البحث مَدِينٌ لإسهام المنظَّمة في أمور، أذكر بعضها:
1- وفّرت المنظَّمة وثائق المحاكمات - مواضيع الدراسة؛ ولولا توفّر هذه الوثائق ما كان ليكون هناك بحث. وكلنا يعلم أن مؤسساتنا، أخاصّة كانت أم عامّة، لا تبذل جهداً منهجياً لأرشفة وثائقها وتركيزها في مواقع خاصّة. وكلنا يعلم أننا نفتقد وجود تدابير مُلزِمة للمؤسسات بإتاحة وثائقها للباحثين. وقد قامت "كفى عنف واستغلال" بجهد لوجستي لتوفير هذه الوثائق بـ "طرقها الخاصّة".
2- وتبرّع محامون من المنظَّمة بمساعدتي في استخراج المعلومات data extraction من الوثائق وِفْق استمارة أعدّت من أجل ذلك الغرض. كما قدّمت محاميات من "كفى عنف واستغلال" معلومات تتعلّق بمواد المحاكمات اللبنانية وبمسارها مما لا يملكها سوى المختصّين.
3- إلى ذلك، قامت "كفى عنف واستغلال" بجهد حثيث لتوفير دعم مالي من المنظمة غير الحكومية الألمانية "هنريش بُلْ" لترجمة الكتاب إلى الإنكليزية.
أما إسهامي، عدا البحث والكتابة، فتمثّل في بذلي الجهد للترويج للكتاب بين الأكاديميين والعاملين في الثقافة من إعلاميين وأساتذة وطلاب وباحثات وباحثِين؛ وذلك بتدبير لقاءات عُقدت حول الكتاب، أو في اشتراكي في ندوات عامّة حول موضوع على تخومه؛ وقد كُتبت مراجعات ومقابلات حوله، بطلب مني أحياناً. وقمتُ أيضاً بمراجعة ترجمة الكتاب إلى الإنكليزية أكثر من مرّة في عملية مضنية استغرقت جهداً ووقتاً لم يكونا في حسبان المهمّة لدى الشروع بها.
وقمنا، المنظَّمة وأنا، بجهد ترويجي مشترك لتوزيع الكتاب على فئات واسعة من الناس وخصوصاً توزيع الكتاب والترويج له بين الناشطين والجماعات المستهدفة من قِبَلِ المنظمة في تدريباتها وندواتها المختلفة فنفدت الطبعة الأولى الورقية منه؛ فقمنا بوضع نسخة ثانية معدّلة على موقع "كفى عنف واستغلال" الإلكتروني؛ وهو ما أسهم بانتشاره على نطاق واسع.
تجربة غير مكتملة
إذ يعمل تقييم تجربة ناجحة على تعزيز الممارسات التي وفّرت نجاحها وتطويرها، فإن تفحّص تجربة متعثّرة يفيد في تعلّم درسٍ، أو أكثر. فلا يسعنا تعديل ممارسات أفضتْ إلى تعثّر تجربةٍ ما، بدون تعيين العوامل التي أسهمتْ في حدوث ذلك التعثّر. أتكلّم عن تجربة أجد أنها لا تزال غير مكتملة.
ففي صيف 2009، طلبت إليّ المسؤولة عن برنامج "تطوير مقاربات واستراتيجيات العمل مع الرجال لإنهاء العنف المنزلي في الشرق الأوسط"، والناشطة في المنظَّمة نفسها، تنفيذَ بحثٍ يتناول "العنف المبلّغ عنه" (reported violence)؛ وذلك في إطار البرنامج المذكور. قبلتُ المهمّة دون تردد وقدّمتُ، وفق العادة، وصفاً لمهمّتي البحثية. وقد جاء في التوصيف المذكور تعيينٌ لغاية ذلك البحث، الطريقة التي سأتبعها، والوسائل التي سأستخدمها في تنفيذه ، مراحله ومخرجاته؛ وقد تمّ
عرض بصري (power point) لمكوّنات البحث في اجتماع ضمّ أكثر من خمسة عشر شخصاً من المعنيين بالبرنامج الذي ينفّذ من ضمنه من أجل تقديم اقتراحات وتعديلات عليه.
في الحالتين، في البحث الأول، كما في البحث الثاني، لم يتمّ نقاش توصيف مهمّتي من قبل المنظَّمة، بل تُرك لي تفصيل ما جاء في ذلك التوصيف دون تدخّل منها؛ وهنا أيضاً وضَعَت المنظَّمة إمكاناتها الإنسانية واللوجستيية في تصرّفي وكان أهمّها تكليف إحدى العاملات فيها بتوزيع الاستمارة ومتابعة ملئها مع المنظَّمات غير الحكومية التي تنفّذ برنامجاً لاستقبال النساء المعنّفات. كما تولّت التعاقد مع مؤسسة متخصصة عملت على تنفيذ المعالجة الإحصائية للمعطيات المحصّلة من التطبيق الميداني للبحث.
لكن الأمر لم يسلك في هذه الحال المسار الموصوف إلى الغاية المرتجاة؛ وهو ما ظهر في اجتماع ثانِ حول البحث ضمّ الفريق العامل لتنفيذه حضرتْه المسؤولة الإقليمية للمنظَّمة المانحة الداعمة للبرنامج المذكور والذي جاء البحث في إطاره. هذه المسؤولة كانت قد حضرَتْ الاجتماع الأول المذكور ولم تقدّم أيّة ملاحظة حول موضوعه، ولا طريقة تنفيذه ولا مكوّناته. لكنها في الاجتماع الثاني أبدت اعتراضاتٍ تُفضي، عملياً، إلى استبدال البحث ببحثٍ آخر بعد أن كنّا قد قطعنا شوطاً في تنفيذه. لم يكن الأمر مقبولاً مني، فحاولتُ الاعتذار عن المضيّ قدماً في المشروع؛ رُفض اعتذاري لكنني حصلتُ، بالمقابل، على ضمانات بعدم التدخّل في المسار الموثّق في توصيف مهمّتي بعد الشروع به.
إلى ذلك، فقد كان طموحنا أن تكون العيّنة المدروسة في البحث الميداني المُثبت في كتاب "نساء يواجهن العنف" شاملة لكلّ النساء اللواتي بلّغن عن العنف في كلّ المنظَّمات غير الحكومية التي تنفّذ برنامجاً لاستقبال النساء الراشدات المعنّفات، وعلى امتداد الجمهورية اللبنانية؛ وذلك، في فترة زمنية حدّدناها بستة أشهر منذ بدء إجراء البحث. وقد قامت منظَّمة "كفى عنف واستغلال" من أجل ذلك برسم خريطة أوّلية لهذه المنظَّمات. لكن التي رضيتْ من المنظَّمات بالتعاون معنا لم تتعدّ الأربع. هكذا، جاءت العيّنة مناسبة (convenient) بدل أن تكون شاملة. صحيح أن حجم العيّنة المناسبة يسمح بصوْغ فرْضيات (أي إجابات محتملة) حول ما نرغب بالبحث عنه، لكن الإجابات كانت ستكون أكثر دقّة، وكانت ستسمح باستنتاجات أكثر شمولاً لو كانت العيّنة مشتملة على كلّ النساء المبلّغات عن العنف للمنظَّمات غير الحكومية على كل الأراضي اللبنانية. إن عدم شمولية العيّنة قد سلَب هذه الدراسة الميدانية أحدَ أهمّ الإضافات التي كانت ستقدّمها في هذا الموضوع. ولدى انتهائي من البحث والكتابة، تعثّر الشروع بنشر البحث، هو أيضاً، لأسباب لم أتحرَّ عنها. فكان أن طُبع على عجل في ظرف أسبوع واحد، الأمر الذي خفّض عدد مرّات مراجعات مسودّاته. فزادت، بالضرورة، درجة احتمال وجود أخطاء طباعية فيه.
كذلك، وبخلاف ما حصل بالنسبة لكتاب "جرائم قتل النساء"...، فإن المنظَّمة لم تبذل الجهد الكافي لتوزيعٍ واسعٍ للكتاب، فلم أُدعَ، مثلاً، إلى نقاشه مع المجموعات المستهدفة بأنشطتها. من جهتي، لم أبذل جهداً لتوزيعه، ولم أتصل بأصدقائي من الصحافيين أو الأكاديميين من أجل إجراء مراجعات للكتاب أو مقابلاتٍ حوله، كما أفعل في كل مرّة يصدر فيها كتابٌ لي. وأنا أتحمّل، إذاً، قسطاً من المسؤولية في عدم اكتمال مسار التجربة؛ وذلك قياساً على ما أفترضُه إحدى مهامي لدى قبولي إجراء البحث.
لكن، بخلاف ما قد يشير إليه ما قلتُه في ما سبق، فإنني فخورة بهذا الكتاب؛ إذ إن قيمته العلمية لا تخفى على القارئ النبيه، وهو قد قدّم إضافة على الأبحاث التي تناولتْ عينات شبيهة، ووثّق لموضوع مناهضة العنف ضد المرأة عندنا من زوايا ثلاث: البحث، التنظيم، التبليغ. وهو انتهى في أقسامه الثلاثة إلى اقتراحات عملية محددة تستدعي نقاش المنظَّمات العاملة على مناهضة العنف ضد المرأة عندنا مستجيباً، بذلك، الحاجة الموضوعية للمنظَّمة التي رعت إصدارهأين المشكلة إذاً؟
تكمن المشكلة، أساساً، في التفاوت بين المسار الذي سلكه هذا البحث وبين تصوّري الشخصي لوظيفة البحث الهادف. إذ، لو كان البحث أكاديمياً صرفاً لكانت مسؤولية الباحث تبدأ مع قبول الباحث إجراء البحث وتنتهي عند نشر الكتاب. في حالة البحث الهادف، تتجاوز مسؤولية الباحث المستوى الأكاديمي؛ سأوضّح، في ما يلي، ما أحاول قولَه.
التصوّر
إن تصوّري لشكل التعاون بين المنظَّمات غير الحكومية وبين الباحثات والباحثين يقوم على مبادئ أساسية أذكر ، في ما يلي، ثلاثة منها:
الأول: ومفاده أن البحث الذي ينفّذ بالتعاون مع منظَّمة ناشطة في المجال العام هو بحثٌ ذو وظائف متعددة: إذ يتوجّب عليه موْضَعة أهداف المنظَّمة ونشاطها في السياق المجتمعي الأعمّ؛ لكنه، أساساً، ولكونه بحثاً هادفاً يتعيّن عليه توفير معرفة تسمح للمنظَّمة بمراجعة رؤيتها والاتجاهات الحاملة لعملها. كما أنني أفترض أن هذه المعرفة ستوفّر إضاءاتٍ على ممارساتٍ قائمة وتشير إلى أخرى مُفتقدة. في البحث الهادف أيضاً، يُفترض أن تكون هذه جميعاً مصوغة بطريقة يسع المنظَّمة إعادة صوْغها بمفردات عملانية تفيد في تحسين أدائها. فتكون المقترحات/ التوصيات التي ينتهي إليها البحث محدّدة، وتتعلّق بالغاية التي رسمتها المنظَّمة لنفسها، وذات صلة باستراتجيتها وخططها والبرامج المنفّذة في إطارها. من نافل القول، أيضاً، أن يعمل الباحث، الأكاديمي خاصّة، على كبح ميلِهِ إلى استعراض نظريات ومفاهيم تمنع عن الناشطين والناشطات فهمَ ما يقوله؛ أي إنني افترض أن يقوم الباحث باستخدام لغة بسيطة لكن غير تبسيطية. فإذا ما ارتأى أن استخدام مصطلح ما يقدّم معرفة أوفر وأعمق لفهم ظاهرة ما، فإن تعريف ذلك المصطلح في ثَبْتٍ للمصطلحات يصبح أمراً ضرورياً.
الثاني: وأنطلق أيضاً من مبدأ آخر ومفاده أن النشاط الاجتماعي في أيامنا الحاضرة أصبح ينطلق في الاتجاهَين، وبطريقة تبادلية: من القيادة إلى القاعدة، وبالاتجاه المعاكس؛ لذا، فإن المعرفة المحصّلة من الأبحاث هي ملك الجميع، وتضميناتها ونتائجها، إذا ما أثْرت رؤية المنظَّمة العامة وسمحتْ بتطوير برامجها، فإن ضمان تطبيقها الملموس هو التشارك بين القاعدة والقيادة في هذه المعرفة. هذا التشارك لا يمكن أن يتحقق عبر تعميم قراءة البحث على الناشطات والناشطين، فحسب. إن تجربتي في هذا المجال تشير إلى أننا محتاجون إلى عقد لقاءاتٍ حول البحث ونقاشه مع هؤلاء ومع الجماعات التي تستهدفها المنظَّمة؛ وذلك لضمان وصول المعرفة وتضميناتها النضالية إلى هؤلاء. فلا ننسَ أن استيعاب ما نقرأه ذو صلة بمخزوننا المعرفي السابق. وفي مجال الجندر، خاصّة، تصطدم المعرفة الجديدة بيقينيات محتاجة لتفكيك. هذا التفكيك ينبغي أن يكون منهجياً وفي إطار مبادئ المواطنة وحقوق الإنسان. هذه المبادئ، وكما تدلّ اختبارات المنظَّمات غير الحكومية ذات الصلة بالناس مباشرة، ليست خلفية بديهية لدى الأشخاص في ثقافاتنا الاجتماعية.
ما أودّ قوله، هو أن دور الباحث، الذي يجري بحثاً هادفاً، لا ينتهي مع نشر البحث في كتاب، ولا حتى مع توزيع ذلك الكتاب. وقد لا يوافقني كلّ زملائي الباحثين على ذلك، لكن الباحثين/ الناشطين يدركون تماماً راهنية ما أقول.
الثالث: وتعاون المنظَّمات غير الحكومية، بعضها مع البعض الآخر، في مسارات الأبحاث هو، في تصوّري، شرط ضروري لارتقاء البحث الهادف ولتطوّره، ولتركّز الموارد بدل هدْرها، وللحدّ من نفول تناول الموضوعات وتكراراها، بل أحيانا لإجراء الدراسة نفسها، كما كان الحال عليه هنا. كما أن التعاون المذكور يسمح بانتشار نتائج البحث ونقاشها والتشارك مع فئات أوسع في فحص جدوى تطبيق التوصيات العملية الناتجة عنها إلخ.
...ودروس متعلَّمة
انطلاقاً من هذه المبادئ أو المعايير التي أستند إليها من أجل تقييم تجربتي، فإن بعض الدروس المستنتَجة تتمثل بالآتي:
الدرس الأوّل
هو ضرورة التشارك بين الباحث وبين المنظَّمة في تعيين الغاية من إجراء بحث هادف؛ فلا يجوز تخويل الباحث مهمّة تأويل تلك الغاية انطلاقاً من عنوانه. إجرائياً، هذا يعني أن تطلب الباحثة من المنظَّمة اجتماعاً خاصاً يتم فيه نقاش توصيف المهمّة البحثية والتوصّل إلى التشارك في فهم ما جاء فيه جملة وتفصيلاً. هذا النقاش يسمح للطرفَين بإعادة التفكير بأمور أساسية كما يسمح بفحص أمور جزئية، لا بد من تفحّصها، قبل المضيّ قدماً بالبحث.
بكلام أوضح: لا يجوز للباحث أن يباشر بالقيام ببحثٍ استناداً إلى عنوان مستقل عن السياق الذي ينفّذ في إطاره. فإذا لم تقمْ المنظَّمة بإبراز الصلة بين ما تطلبه من الباحث وبين برنامجها، فإنه يجدر بالباحث أن يبادر إلى تعيين موقع البحث المطلوب من البرنامج الأعمّ الذي يشمله، بدل اعتباره شأن المنظَّمة حصراً؛ وذلك بالعمل على صوْغٍ صريحٍ وواضحٍ لذلك الموقع عبر الإجابة عن السؤال التالي: كيف يُستفاد، عملياً، من بحث مطلوب في سياق البرنامج الأعم الذي ينفّذ في إطاره؟ فلا يبقى الارتباط بينهما "مفترضاً" ضمناً. وفي حالة البحث الذي طلب إلي تنفيذه عن "العنف المبلّغ عنه"، كان يتعيّن عليّ طرح السؤال الآتي: كيف يخدم بحثٌ حول التبليغ عن العنف ضد المرأة برنامجاً عنوانه: "تطوير مقاربات واستراتيجيات العمل مع الرجال لإنهاء العنف المنزلي في الشرق الأوسط". لقد كانت الصلة واضحة في ذهني، لكنني لم أبذلْ جهداً لتوضيحها للمنظَّمة.
يبدو لي أن تسرّعي بالمباشرة بالبحث دون تبصّر في موقعه من البرنامج ذو صلة بدوافعي البحثية الخاصّة. وهذه تمثّلت برغبة في إشباع فضولٍ شخصيّ لم تحقّقها الدراسات التي تناولت النساء المبلّغات عن العنف - أي، مجتمع البحث study population في دراسات منشورة أخرى. لقد كان جلّ هذه الدراسات وصفياً، وهي لم تحاول إبراز علاقات بين المتغيّرات المدروسة؛ يبدو أن ذلك التسرّع جاء لأسباب تتعلّق برغبة خاصّة لديّ في تصويب ما بدا لي مبتوراً في الدراسات السابقة، وفي استكمال ما بدا لي غير منتهٍ منها.
والدرس الذي أقترح استخلاصه، في هذا السياق، هو ضرورة قيام الباحثة بتأمّل ذاتي تحدّد فيه دوافعها الشخصية لإجراء البحث وتعيّن مساحة التقاطع بين هذه الدوافع والدوافع المفترضة للمنظَّمة؛ وذلك قبل اتخاذ قرارها بإجرائه. كما ينبغي للباحث الذي ينفّذ ابحاثاً هادفة أن يقوم بتحييد مشاعره الشخصية تجاه تعثّر مسار البحث والعمل على إنهاء ما يُفترض أنه قبِل مسؤولية البدء به.
ولا ضرورة للتأكيد أن دور المنظَّمة في هذا السياق ينبغي أن يكون هو أيضاً ناشطاً في مواكبة البحث: إن في تحديد أهدافه، أو في تصوّر تصميمه أو طرق تنفيذه. باختصار أن تكون شريكاً فعلياً في كل مساراته، فلا تنتهي مهمّتها "الرقابية" إثر تخويل الباحثة مهمّة الدراسة.
الدرس الثاني
قلتُ في معرض الكلام عن تعثّر إجراء البحث إن تعاون المنظَّمات غير الحكومية في ملء استمارة البحث (في البحث المثبت في كتاب نساء يواجهن العنف) لم يكن كافياً. إن السبب الرئيسي الذي تقدّمت به هذه المنظَّمات عن إحجامها عن التعاون، هو أن تعبئة الاستمارة كانت ستكون عبئاً إضافياً على المرشدة الاجتماعية المعنية بالتعامل مع المرأة المبلّغة عن العنف/طالبة المساعدة، وأن هؤلاء المرشدات كنّ مُثقلات بمهامّ تتجاوز طاقة احتمالهن.
إن هذه الحجّة التي تقدّمت بها المنظَّمات غير المتعاونة تشير إلى تقديم أهمية النشاط العملي على أهمية تطوير المعرفة حول ذلك النشاط. ولعلّه يشير، أيضاً، إلى تقسيم عملٍ قائم بين النشاط العملي وبين التأمّل حوله. والسؤال المطروح، في هذا السياق، هو التالي: هل يصحّ تقسيم مجالات الاهتمام على العاملات في المنظَّمات غير الحكومية، فيهتم بعضُهن بالعمل التطبيقي فيما يهتم آخرون بـ "الأفكار". أعتقد أن ما يفوت بعض القيادات في هذه المنظَّمات هو أن المرشدة الاجتماعية/ المبحوثة في حالة البحث الهادف، تتعلّم خلال كونِها مبحوثةً؛ وذلك، لأن الأسئلة المطروحة عليها ستكون، على الأرجح، باعثة على التأمّل في تجربتها الشخصية كمرشدة اجتماعية، وفي أمور تتعلّق بعملها قد فاتَها، ربّما، التفكيرُ فيها بسبب انشغالها العملي، تحديداً. إن التأمّل من بعض المراجعة والتقييم لذلك العمل وهو إذاً من بعض شروط تطويره.
لكنني لست متأكدة من أن الحجّة التي تقدّمت بها هذه المنظَّمات هي السبب الرئيسي وراء إحجامها عن التعاون. إن عدم تعاون بعض المنظَّمات غير الحكومية العاملة في المجال نفسه مع بعضها الآخر أمرٌ ينبغي التوقف عنده، لا بسبب تأثيره على الأبحاث فحسب، بل لأنه مشكلة تلقي بظلّ سيّئاتها على العمل الاجتماعي برمّته. فيكون الدرس المتعلّم في هذه الحالة هو ضرورة مبادرة الباحث إلى نقاش مسألة التعاون مع المنظَّمات غير الحكومية المعنيّة بالبحث، بل ربما جعله شرطاً من شروط القبول بالقيام به. إن للإثنين، الباحث والمنظَّمة، مصلحة واضحة في ذلك التعاون. ويشكّل البحث أرضية مناسبة لذلك التعاون لأنه كفيل بتحييد بعض الخلافات والتخفيف من أخرى.
الدرس الثالث
أزعم أنه من المفيد التعبير الصريح عن المصلحة المتبادَلة بين الطرفَين، الباحثة من جهة والمنظَّمات غير الحكومية من جهة ثانية. إن التعاون المذكور هو بالنسبة للباحث تعبيرٌ عن طلبٍ اجتماعي على البحث العلمي، والاعتراف تالياً براهنية مهنته وأهميتها؛ وذلك أمرٌ عزيز المنال في بلادنا. هذا الطلب هو أيضاً اعترافٌ بالأهلية العلمية للباحثة ودعمٌ لموقعها البحثي والأكاديمي.
لا يفوتني، بالطبع، أن ما يُدعى بـ "الحشمة" في أعرافنا تقتضي ألا نسعى للاعتراف، لأن ذلك السعي ينطوي على إبراز غير محبّذ للذات. لكن الاعتراف، مطلوبٌ مهنياً - فهو سبيل للترقّي وذو مردود مادي مباشر. والاعتراف هو أيضاً تقديرٌ لجهد باحثة لكونها استجابت لطلب اجتماعي حين نفّذت بحثاً نال تقديراً بتضمينات "نضالية". وذلك من شأنه تعزيز اتجاهات الباحثين حيال البحث الهادف فيكون بمثابة دعوة للباحثين الأكفياء إلى الانخراط فيه وهو أمر ذو أهمية في الدراسات النسائية، بشكل خاص؛ وذلك بسبب شيوع فكرة أن الأبحاث حول المرأة تُنفّذ بخفّة تجافي المنهج العلمي الدقيق، وتخترقها الإيديولوجيا النسوية المشوّشة على الحياد العلمي. (وهذه مسألة مهمّة ينبغي تناولها في مقام آخر).
بالمقابل، فإن إرساء العمل الاجتماعي على قاعدة بحثية يوفّر للمنظات غير الحكومية وضوحاً في الرؤية وحجّة علمية لخطابها ما يسمح بالرقيّ في عملها إلى مستويات أعلى من الفعل والتأثير. وما بات يميّز نشاط المنظَّمات غير الحكومية المعاصرة هو موقع البحث والمعرفة في رسم استراتيجيات هذه المنظَّمات وفي توجيه خططها وفي صوغ برامجها، كما في صياغة حملاتها الترويجية ودعواتها للمناصرة. فالارتجال لم يعد محبّذاً في العمل الاجتماعي، ولم تعد النوايا الطيبة، ولا الكلام الخطابي سبيلَين كافيَين للإقناع إذا لم يكونا مدعومَين بالحجج المحمولة على وقائع مثبتة صحتها بالاستقصاء والدراسة .
بمثابة دعوة
هذه بعضُ (وليست كلَّ) الدروس العملية المستقاة من تجربتي في البحث مع منظَّمة غير حكومية؛ واستعراضُها بمثابة دعوة إلى أيّة المنظمة غير حكومية لإجراء تقييم شبيه ومكمّل لتقييم العمل المشترك بينها وبين الباحثة من أجل استخلاص الدروس الخاصة بها، سواء في تداعيات تعاونهما معاً على نشاطها بين جماعاتها المستهدفة به، أو في ديناميات التخطيط لعملها والسلوك التنظيمي بداخلها .
لكن هذا الاستعراض هو دعوة أعمّ تتمثّل بإدراك كلِّ طرفٍ لأهمية دورِ الآخر، ولأهمية دورِه هو أيضاً في الدائرة المشتركة التي تجمعهما معاً في مهمّة البحث. على الباحثة أن تُدرك أن البحث الذي تنفّذه للمنظَّمة هو تطويرٌ لمهنتها ودعمٌ لمكانتها العلمية، بمقدار ما هو إثراءٌ لـرؤية المنظَّمة لدورِها وبقدْر ما يُفضي إلى تحسين أدائِها. وعلى المنظَّمة أن تدرك، هي أيضاً، أن ضمانَ رقيّ عملِها وفاعليتِه يتحققان بإرسائه على قاعدة بحثية، وبأن طلبَها على البحث بمثابة توفير فرصة إضافية للباحثة لممارسة مهنتِها، وفرصة إضافية للاعتراف بها.
أي: أن يدرك كلُّ طرفٍ مصلحتَه، ومصلحة الآخر، في شراكتِهما المتبادَلة. هي دعوة للاستخدام الصريح لمفهوم "المصلحة" في الكلام المتبادَل بينهما. فالفائدة المرتجاة من التصريح عن المصلحة تتمثّل، أساساً، بإبراز مسؤولية كلٍّ من الطرفَين تجاه البحث المُنتج، وإزالة غموضٍ قد يحيط بالمهمّة مصدره، ربّما، عدم تعيين دائرة التقاطع بين الدوافع الإيثارية في العمل الاجتماعي، وبين الدوافع المتعلّقة بالمصلحة الشخصية.
هذه الدروس تُفضي، أيضاً، إلى دعوة لانخراط كلّ واحدٍ منهما، بدرجة أكثر حيوية، في ما يُعتبر اختصاص الآخر:
هي دعوة إلى الباحثة لأن تكون "ناشطة"، فلا تحتمي بالبحث العلمي حجّة لتبنّي الحياد، وإلى المنظَّمة لأن تكون "باحثة"، فلا تنأى بنفسها، بحجّة التخصص، عن مهمّة متابعة مسار البحث: بدءاً بانطلاقته حتى تحقيق غايته؛ فيكون الطرفان بذلك، متكافلَين ومتداخلة مجالات حاجة واحدِهما للآخر، ومتكافئيَن في درجة المصلحة التي يجنيها كلُّ واحد منهما، في فسحة التعاون التي تجمعهما معاً.
كتابة تجربتي هذه هي، أيضاً، بمثابة دعوة للباحثات والباحثين لتوثيق تجاربهم البحثية الهادفة لتشكّل مجتمعة "مدوّنة" يسع الباحثين والناشطين الاستفادة من الدروس المتراكمة منها ومانعين، بواسطة ذلك التوثيق، تكراراً يتذمّر الجميع من وقوعه ولا يبذلون جهوداً لتفاديه.