لا أعرف كيف اهتدى أبي إلى مدرسة الراعي الصالح ليجعلنا من تلاميذها أنا وثلاثة من أخوتي. كانت بعيدة عن بيتنا إلى حدّ أنّه كان علينا أن نكون جاهزين لوصول الباص، نحن الأربعة، واقفين على رصيف الشارع تحتنا، إبتداء من السادسة إلّا ربعا. ورغم ذلك ليس البعد الجغرافيّ وحده ما أقصده، بل وقوع المدرسة في شارع، بل في منطقة، لا نعرف عنها شيئا ولا صلة لنا بأحد من ساكنيها. ثمّ أنّها لم تكن على شارع عام، عريض، لأقول إنّ أبي شاهدها في أثناء مروره فأعجبته. فهو، في أغلب الظنّ، لم يمرّ أبدا في ذلك الشارع الضيّق المتفرّع بدوره من شارع ضيّق آخر.
أرجّح أنّ أحدا من زبائن الفرن نصحه بأن ”يسجّلنا“ هناك، ففعل، غير آبه بالأقساط المرتفعة التي سيكون عليه أن يسدّدها مرّة كلّ ثلاثة أشهر. بل إنّ دفعه لتلك الأقساط ربما كان بين حوافزه ليختار لنا تلك المدرسة. ذاك أنّ شغله كان قد ازدهر في الفرن، وقد ظهر لنا ذلك في تغيّرات كان بينها شراؤه سيّارة أوبل كابيتان خاصة للعائلة، فيما كنا من قبل نستخدم لنزهاتنا سيارّة الفرن، وكذلك تجديده لأثاث بيتنا، وبدؤه ببناء بيت لنا في الضيعة يعلو بيت جدّي.
أما في مسائل الترقّي الاجتماعي الأخرى فكان في حاجة إلى من ينصحه، أو إلى من يدلّه. قال له زبون، وربما زكّى قوله آخرون، إنّ المستقبل هو للغة الإنكليزيّة وعليه ألا يبقينا في مدرسة تُعلّم الفرنسيّة. وهو، أبي، كان قد أصاب بعضاً من الكلمات الإنكليزية من الزبائن الأميركان الذين كانوا يأتون إما من الجامعة الأميركية التي تقع عند الجانب المقابل لرصيف الفرن وإما من مستشفى الجامعة التي لا تبعد عنا إلا دقيقتين أو ثلاثاً. كان يقول مثلا ”هاف؟“ لمن طلبتْ منقوشة لعلمه أنّ تلميذات الجامعة لا يستطعن أن يكملن أكل منقوشة كاملة، فيقطعها لهنّ إلى نصفين. وكان، بالإنكليزية أيضا، يعرف كيف يتعامل بالنقود فيقول للزبون ماذا عليه أن يدفع كما يقول له كم هو يردّ له فيما هو يمدّ له يده بالباقي. بل إنّه، في واحدة من النكات القليلة التي يرويها، كان يسخر من الذين لا يعرفون من تلك اللغة إلا كلمة واحدة أو كلمتين، فكان يقول مثلا: ”في واحد راح على لندن وهونيك شاف تنين عميتخانقو، لما إجا البوليس لياخد شهادتو قال: زِس ون تخانق هوي وزِس ون بس الحق على زِس ون“.
كان تلاميذ آخرون ينقلبون من الفرنسيّة إلى الإنكليزية وقد هيّأت إدارة المدرسة لهم قسما خاصّا اسمه ”سبشال“. هناك كان التلاميذ يُدرَّسون في مجموعات صغيرة لكن على الرغم من ذلك كان تجاوبهم متفاوتا. من الصفّ الذي كنت فيه، وهو الأوّل ثانوي ب، كنا نخرج ثلاثة تلاميذ إلى السبشال، وهناك ننضمّ إلى آخرين جاؤوا من صفوف أخرى، ثمّ نتوزّع هناك على المعلّمات. لكننا مع ذلك كنا نسرع في التعلّم لنُجاري رفاقنا الذين ظلوا ملازمين الصفوف، مع أنّ هؤلاء كانوا يكملون الدرس ولا ينتظروننا حتى يصير ما نعرفه بمستوى ما يعرفونه. أما المواد الأخرى، وهي الفيزيكس والكامستري والماثماتيكس والألجبرا، فكانت تعطى لنا في صفّنا، مع زملائنا الآخرين سواء بسواء، فكنّا، نحن السبشال، لا نفهم منها شيئا. لكنّنا بالإنكليزي كنا نتحسّن بسرعة ونجد اللغة سهلة هيّنة وليس مثل الفرنسية التي كنا نستجيب لتخويف الأساتذة لنا من صعوبتها، لنعرف أنّنا مهما تعلّمنا منها سنظلّ مقصّرين.
كانت الإنكليزية هيّنة وأنا استطعت، بعد ثلاثة أشهر فقط من تعلّمها، أن أجيب أبوجهاد، شغيل الفرن، عن أسئلته التي راح يمتحنني بها أمام أبي. ”شو إسمك بالإنكليزي؟“ يسألني، فأجيبه my name is Hassan، ثم يسألني ”شو إسم مدرستك؟“، فأتذكّر تلك اللافتة المعلّقة على شرفة الطابق الرابع من بناية المدرسة فأقول: College of the Good Shepherd Secondary Institute. كانت تلك أطول جملة حفظتها إذ كنت أتمرّن عليها كلّ يوم. أي أنّ مستواي في اللغة كان أقلّ مما ظهر مني أمام أبو جهاد، بل أمام أبي الذي أيقن أنني مع هذه الجملة الطويلة أستطيع أن أترجم كلّ شيء.
ذلك القليل من الإنكليزي أفادني أيضا عندنا في البناية حيث نسكن. صحيح أنني لم أكن أردّ على ميمي، ابنة الجيران، كلّما قالت شيئا بالفرنسية فأقول: ”نحنا نصّ العربي ناسيينو“، مثلما كانت شائعة الردود في تلك الأيام، إلا أنني كنت أستحي أن أردّ عليها بالفرنسية حين تكلّمني بها. إما أستحي وإما لا أعرف. لكن بعد أن تحوّلتُ إلى الإنكليزي صرت، كلّما سألتني شيئا بالفرنسية، أجيبها بطريقة أبدو بها كأنّني أعرّف عن نفسي، ودافعا إيّاها إلى أن توقف استرسالها بالكلام الفرنسي: ”إنغليش، أنا إنغليش“. وكانت ميمي تسكت من فورها إذ أنّ اللغة الإنكليزية لم يكن قد وصل شيء منها بعد إلى منطقة الصنائع حيث بنايتنا.
أي أنّ اللغة الإنكليزية، وعلى رغم تدرّجي بالصعود إليها، راحت تنقذني من الإحراج الذي توقعني فيه مشكلتي مع الفرنسية، أو مع من يسرعون إلى مخاطبتي بها. لقد اكتسبتُ هنا لغة أخرى، إحتياطية، تردّ عني، من دون أن أستعملها، ذلك الإحراج الذي قد يوقعني فيه سؤال يأتيني بالفرنسية من أحدهم، أو إحداهن. ”إنغليش، أنا إنغليش“ أقول، مُوقفا السائل عند حدّه. بل إنّني أستطيع أن أحرجه أنا هذه المرّة بأن أسأله: ”دو يو سبيك إنغليش؟“.
*
لقد أمكن تدبّر المشكلة مع الفرنسية، لكن ما ظلّ صعبا النجاة من نتائجه هو التكلّم بالعربية أمام من يتكلمّونها بغير لهجتنا. وهنا لا أقصد تكلّمي أنا هذه المرّة، إذ أنّني كنت في الثانية عشرة، وهذا مكّنني من إجراء تحسينات متتالية على لهجتي. لكنّ أخوتي الصغار، الثلاثة، لم يكونوا قد خرجوا بعد، ولو خطوة واحدة، من اللهجة التي يتكلّمها الجميع في بيتنا. وهؤلاء الجميع كثيرون ولا يقتصرون على أقربائنا المباشرين. في باص المدرسة كان عليّ إذن تدبير أحوال أخوتي ورعايتهم والاستماع إلى شكاواهم، هناك من أوّل الباص حيث يجلسون إلى آخره حيث أجلس أنا، ومنها أن يقول أحدهم مثلا: يا حسن هذا الصبي عميضربني. لكنّ أصلها في كلام أخي هو هكذا: حسن (بكسر السين كسرا شديدا بدلا من فتحها) هاضا ( أل ”ها“ مضخّمة كأنّها احتاجت إلى أن يفتح أخي فمه أكثر مما ينبغي لحرف الهاء، أما حرف العلة الملتصق به، أي الألف، فيجعل الهاء ha كما في الفرنسية. أما الضاد هنا فهي تضخيم مسرف لحرف الدال) الصبي (وهذه تبدو سليمة مثلما هي في لهجة الآخرين إذ لا أجد في تحريك حروفها، أو في حروفها نفسها، ما ينفر عن الكلام العادي، المقبول. لكنني، رغم ذلك أعرف، ويعرف التلاميذ الآخرون في الصفّ، أنّها من اللهجة الخطأ، لهجتنا، وذلك لأسباب من المتعذّر تبيانها) عميضربني (الياء هنا، الياء الأخيرة التي في آخر الكلمة، تحمل النغم الشواذ كلّه، وذلك بإطالتها التي لا تعني إلا إصرار أخي على فضحي، أو على فضحنا، على مسامع الأولاد جميعا).
الجملة: ”يا حسِن هاضا الصبي عميضربنيييي“، أو جملة أخرى تقال بالصوت العالي، المتشكّي ذاته، كانت فاضحة وتقع عليّ وقوعا مزلزلا. ولا يفوّت التلاميذ الآخرون مناسبة مثل هذه من دون أن يحاولوا إعادتها، مكرّرة بلهجة أخي ذاتها. أو يروحون يبتكرون جملا من عندهم يقولونها بتلك اللهجة. وأنا لن يكون عليّ إلا أن انتظر انتهاء تلك الجولة لأبدأ بعد ذلك خوفي من أن يأتي صوت أحد أخوتي، عابرا إليّ من فوق الرؤوس الكثيرة.
كان خوفا مستديما جعلني في فرصة الساعة 10 أذهب بهم إلى ذلك الطرف البعيد من أطراف الملعب أو، إن نزلت بهم إلى الكافتيريا، أقول لهم أن يجلسوا على كراسي البنك الأخير ولا يرفعوا أصواتهم حين يتكلّمون. هناك، وهم جالسون معا، باقون معا، كنت أسرع في العودة إليهم حاملا قطع البريوش والشوكولا التي اشتريتها لهم. وكذا كنت أفعل، على الطاولة ذاتها، عندما نكون في فرصة الغداء حيث أقوم بتسخين الأكل لهم في مطبخ الكافتيريا، وهم لا يتحرّكون من أماكنهم.
بذلك كنت أطيح بأيّ تقدّم محتمل يمكنهم تحقيقه، طالما أنّ تغيير كلامهم لن يتحصّل لهم من دون أن يختلطوا بالآخرين. فليتمرّنوا على الكلام في مكان آخر غير المدرسة، كنت أقول، أو فليتمرّنوا على ذلك في المدرسة الأخرى التي سيضعهم فيها أبي ابتداء من أوّل السنة الجديدة. أنا في مدرسة وهم في مدرسة، كان ذلك أشبه بحلم أكون فيه كمن أُعتق مما يأسره ويكبّله.
هذا وكنت بيني وبين نفسي أرثي لهم لكثرة الجهد الذي عليهم أن يبذلوه في تعوّدهم على الكلام الجديد. ذاك الانتقال من حيث هم إلى حيث سيصيرون لن يتحقّق لهم في أسبوع أو في شهر، ولا حتى في سنة. لا يستطيع أحد أن يغيّر لهجته لمجرّد أنّه يرغب في تغييرها. ذلك يحتاج إلى وقت وتمهّل حيث أنّ التسرّع قد يؤدّي بصاحبه إلى نطق هو أدعى إلى الهزء والمسخرة مما لو تكلّم بلهجته الأولى، الأصلية. هذا كان حال خليل ابن عمّتي، بل هذا كان حال أولاد عمّتي جميعا إذ بدأوا يحكون بالبيروتي من صباح اليوم التالي لنزولهم إلى بيروت. قال خليل، ردّا على سؤال أتاه من أبي، إنّه سيشتغل في محل لبيع الغاتو. لكنّه لفظ تلك الكلمة الأخيرة محوّلا الـ gaإلى ka وجاعلا حرف العلة الفرنسي، وهو الـ O، أو الـ EAU كما يكتب بالفرنسية ذلك المقطع من الكلمة، إلى واو عميقة بالعربية فصارت كلمته KATTOUH، ملفوظة هكذا بالعربية.
وقد استحقّ خليل تأنيبا سريعا من أبي بسبب سرعته في التماثل مع أهل بيروت وقفزه فوق أصله وفصله. كانت هذه مشكلة أبي هذه المرّة إذ هو يريد من خليل وأخوته أن يتعلّموا الحكي الجديد ويظلّون محافظين على أصلهم مع ذلك، وهذان مما يصعب الجمع بينهما. أما ما وقع فيه خليل فهو أكثر من نقل لهجته الجنوبية إلى اللهجة البيروتية، إذ هو زاد على ذلك نقل الفرنسية إلى العربية (في تلك الكلمة، كاتوه، أقصد) وهو ما زال بعدُ في تلك الكلمة الواحدة. أي أنه كان عليه أن يتصدّى لمشكلتين اثنتين معا وهو لم يكد يكمل نهارا واحدا في بيروت.
أو ربما انزعج أبي من التغيّر المفاجئ الذي رآه في خليل، ذلك التغيّر الذي لم يقف عند حدّ تلك الكلمة إذ بدا أنّ الهجنة التي لازمت نطقه بها كأنّما شملت دخيلته وهيئته. أي أنّه صار في لحظة غير خليل الذي يعرفه أبي. أو أنّه خليل ولكنْ مقلّدا ناسا آخرين لا يشبهونه، وهو مع ذلك أخطأ في تقليدهم. ثمّ أنّه ارتكب خطأه هذا وهو في بيتنا الذي كنا فيه وحدنا ولا أحد معنا يشاء خليل مسايرته بأن يظهر له عن تمدّنه السريع. هنا، في داخل البيت، لا أحد يظهر لأحد عما حقّقه من تقدّم في الخارج. الكلّ يتكّلم كما لو كان ما يزال في الضيعة لم يغادرها، أي أنّ التغيّر الذي يحقّقه الواحد منا في الخارج يجب أن يظلّ في الخارج.
ولا بدّ أن خليل وأخوته قد عانوا كثيرا من انتقادات زوج عمّتي الثانية الذي كان يظلّ متربّصا بكلّ خطأ قد يقع فيه أحدهم، فإن تقدّموا في حكيهم خطوة إلى الأمام يتمسخر عليهم، وإن تراجعوا خطوة، عائدين إلى كلامهم الأوّل، يتمسخر عليهم أيضا. أي أنّ التجريح بسبب الكلام وإغاظة المتكلّمين لم يكن يأتي من الغرباء فقط. وهذا ما يجعل الأمور أكثر صعوبة من مواجهات الخارج، على رغم أنّها تساويها في الإيذاء.
***
أن يتمكن شخص من تغيير لهجته تغييرا كاملا، أو أن يضيف إلى لهجته لهجة جديدة متمثّلا نطقها تمثّلا تاما، فهذا مما يقع في باب المحال. أنا الآن، وقد جاوزت الستّين، أجد أنّ ما كان يُعاب عليّ من كلام أخوتي في باص المدرسة، لم أتمكّن من الخلاص من بقايا فيه ما زالت ملازمة نطقي. يتبيّن لي ذلك حين أستمع إلى صوتي خارجا من المسجّلة. ما زلت أقول ”أنِي“، بالياء المخفّفة فيما أقصد أن أقول ”أنا“. بل إنّني أروح أتعجّب من نفسي كيف أني ما زلت أقولها هكذا مع أنّني، في التبدّلات الكثيرة التي أجريتها على لهجتي، بل على لهجاتي، كان يحدث في مرّات أنني كنت أقول ”أنا“ كاملة، بل مضخّمة، كما لو أنّها ana، هكذا تماما كما هي بالفرنسية.
لن تصير اللهجة الثانية التي نسعى إلى إجادة النطق بها في مصاف لهجتنا الأولى، اللهجة الأمّ، تلك التي تشكّلَ جهازنا النطقي، الفيزيائي، بحسبها. في مرّات أقول إنّ الفوارق في نطق ما يسمى بالعربية بأحرف المدّ، وهي الألف والواو والياء، أي الآ والإي والأو، وكذلك في نطق الفتح والكسر والضمّ، لا حدّ لتدرّجها، كما لا حدّ لكثرتها من ثمّ. وهي، لذلك، أصل التمييز بين اللهجات، كما، بالطبع، بين أنواع الناس. قد تكون هناك اختلافات في نطق بعض الحروف المصوّتة، على مثال الدال المذكور عنها أعلاه في الحديث عن أخوتي في باص المدرسة، والجيم التي لا يعرف أحد كيف كان نطقها الأصلي في أيّام جدودنا الأوائل. وهناك أيضا اختلافات في إبدال التحريك بالتسكين والعكس بالعكس كما نلاحظ في لفظ الفلسطينيين لكلمتهم بنْدورة (وهنا ينبغي الذكر بأن هذا الفرق الضئيل بين فتح النون في كلمة ”بندورة“ وتسكينها تسبّب بمصرع الكثيرين على الحواجز في السنوات الأولى من الحرب اللبنانية)، لكن تبقى أحرف المدّ هي المسبّبة لاختلاف اللهجات وما يستتبعها من مشاكل. وهذه الحروف هي بالضبط هي ما يصعب نطقها متغيّرة معدّلة، وهي الحروف التي أقصدها حين أقول إنّني لم أتمكنّ منها تمكّنا تاما بعد ممارسة استمرّت ما يزيد عن الخمسين سنة.
***
كان عليّ أن أنتظر حتى سنة 1968 حتى أسمع أحدهم يتكلّم بلهجة الجنوب غير آبه في الوقت نفسه بما سيستجرّ وقعها على الآخرين. أقصد أنّه كان يُتكلّم بها في مكان عام، بين ناس كثيرين لم يألفوا سماعها من قبل. كان محمد يقف في وسط كافيتيريا الكلّية مناديا حمزة الذي أطّلّ من البوابة: ”وان سْهِرْتْ مبيْرح يا حمزي“. وكان حمزة يجيبه باللهجة ذاتها من حيث كان يقف عند البوّابة متطلّعا حوله. ذلك، في ما خصّني، كان مفاجئا إلى حدّ أنّ من الممكن تصنيفه في خانة الحدث الذي يقسم زمن الأشياء إلى ما قبل وما بعد. كأنّ ما أُبقي مخبوءا مقفلا عليه قد انبثق بغتة من خبائه ظاهرا إلى العلن. وهكذا صرنا نكلّم بعضنا بعضا بتلك اللهجة، لكن فقط حين نكون وحدنا. وفي ذلك كنّا كما لو أننا نتداول أسرارا أو وشايات جمّعناها من معايشتنا لسوانا، وذلك بعد أن تجرّأ محمّد على إفشاء سرّه، بل سرّنا، مجاهرا به. ولم يبدر ردّ فعل من الطلّاب الموزّعين إمّا على الطاولات، وإمّا وقوفا يكلّم بعضهم بعضا. وأنا، مستجيبا لتلك الخطوة، أو مأخوذا بها، لم أخجل ولم أستحِ. بدت لي تلك الشجاعة من محمد وحمزة، الممزوجة ببعض اللامبالاة كما ببعض التحدّي، اختبارا لم أتمكّن أنا من تجريبه أو خوضه.
وكان ذلك دامغا على أيّ حال. أقصد أنّنا سنرضى به واحدا من التصنيفات التي تحدّدنا كواحدة من المجموعات المتشكّلة في الكليّة. أما ظواهرالتصنيف الأخرى فهي الديكور الضروري، الظاهري، المستنبط من الكلام، حتى وإن كان أفراد المجموعة مختلفين في طرقه وتفاصيله (مؤخّرا، فيما كنت أقرأ مقالا مترجما في إحدى المجلات العربية، هو بمثابة اعترافات عنيفة ومُدينة للمجتمع الإسرائيلي، تعدّد الكاتبة، وهي من اليهود الشرقيين الذين قدموا للعيش في إسرائيل، مظاهر التمييز التي جوبهت بها من قبَل اليهود الآخرين، الغربيين. في ذلك التمييز كان اختلاف اللهجة مصحوبا باختلاف الهيئة، فلا تُذكر إحداهما إلا لتذكر معها الأخرى).
***
منذ أيام أرسل لي أحدهم على الواتس أب فيديو قصيرا لامرأة تعلّق على حفلة مصارعة جارية أمامها على شاشة التلفزيون. كانت تكيل السباب للمتصارعين قائلة عنهم إنّهم كلاب وإنّهم خنازير وإنّ إسرائيل أحسن منهم. هي في الثمانين ربما، لكنّني أيقنتُ أنّها لم تترك ضيعتها في الجنوب أبدا. إذ، في إجرائها الكلام على طبيعته، كانت كأنّها أخرجت لهجتها من صلب ذلك الأصل الأوّل الذي ابتعد عنه الجنوبيّون الآخرون. لقد ظلّت حافظة لهجتها طيلة سنوات عمرها الثمانين ولم تغيّر في نطقها شيئا. وها هي، إذ تظهر لنا مشاهِدة لأحد البرامج التلفزيونية، تكذّب ما رحت أظنّه من أن الناس عدّلت لهجاتها بسبب كثرة جلوسها إلى التلفزيونات والتعوّد على سماع المذيعات والمذيعين في نشرات الأخبار.
وأنا بدوري أعدت إرسال الفيديو القصير بالواتس أب. أردت أن أسلّي من أعرفهم كما سعى من أرسله لي إلى تسليتي. أي أن أضحكهم، مع أنّني، لو شئت أن أعيد كلامها، بلهجتها ذاتها، لأعدته بلساني مطابقا إياه مطابقة كاملة. ”آه يا زمن...“ رحت أقول فيما أنا أرجع إلى أيّام باص المدرسة ذاك. وإذ أسعى إلى تبرير، أو إلى فهم، انتقالي ذاك إلى موقع الضاحكين، أقول إنّ ما أضحكني ليس لهجة المرأة بل ما قالته فيها: ”هاو كليب خَنَزير... إسرائيل أحسن منهن...“، لكن أليس هذا من لوازم اللهجة ونوع كلامها؟