اتذكّر كان في بيتنا رجل. اذكر جيداً صوته، لكنه كان بلا صورة. حينها لم أكن قد قرأت بعد رواية احسان عبد القدوس، الذي أدمنت رواياته في سن الثالثة عشرة. ولا أعرف ما الشغف الذي ألم بي في تلك الفترة لأقرأ عبد القدوس، بعدما كان نجيب محفوظ مفروضاً علينا في المدرسة. كانت أمي تحب احسان، وأنا كنت أتماهى معها. أحب ما تحب، حتى وجدتني أحياناً أحب الطبخ والكنس وجلي الصحون. كنت أستعير من مكتبة المدرسة روايات عبد القدوس وألتهمها في الصف وفي الفرصة ولدى عودتي إلى البيت. وكان مفعولها فيّ كمفعول البيرة في خالي، الذي كان يشرب ويدخل الحمام ثم يشرب ويدخل الحمام، إلى أن يدخل الحمام ويدلق البيرة في المرحاض ويطلق السيفون، مختصراً المسافة بين البيرة واعضائه التناسلية.
كانت روايات عبد القدوس تدخل إلى عقلي وتخرج منه من دون أي مفعول يذكر، حتى أنني اليوم لا أذكر فكرة واحدة من بنات "أفكاره"، هذا إذا كانت لديه أفكار جديرة بالتذكّر والتفكّر. ربما يكون عنوان "في بيتنا رجل" هو الوحيد الذي علق في ذاكرتي، لأنني شاهدته فيلماً على شاشة التلفزيون. ولهذا افكر فيه كلما تذكرت الرجل الذي كان في بيتنا، أو بالأحرى صوت الرجل بلا صورته. وكان هذا الرجل محمد عبد الوهاب.
كان صوته يملأ البيت في احيان كثيرة، خارجاً من مسجلة قديمة تدور فيها اشرطة سوداء من نوع الكاسيت من مخلفات ديسكوتيك كان يملكه والدي في منطقة الشياح أيام الحرب، قبل أن تفجّره إحدى الميليشيات لتطهّره من الدنس، وحينها طارت مع كاسيتات فناني وفنانات ذلك الزمن، كاسيتات ذكر حكيم بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، ولم ينج من المحل سوى بعض الأشرطة لمحمد عبد الوهاب، فايزة أحمد، نجاة، وردة، ومجموعة صغيرة من تسجيلات عبد الصمد، كان من بينها سورة يوسف. كان هذا "الكنز" جاثماً على حافة العليّة فوق الحمام الذي يتوسط غرفة نومنا أنا وأخي وغرفة نوم أمي وابي. وكان يبدو عالياً جداً لا يمكن الوصول إليه بسبب قصر قامتي. وبقي هناك فترة طويلة. وحده محمد عبد الوهاب نزل تدريجياً في بعض أغنياته ليأخذ مكانه أحياناً في المسجّلة، ليخرج صوته وقوراً بأغنيات لم أكن افقه منها شيئاً في تلك الفترة، وبدت لي كأنها تلاوات خفيضة، من بينها "مضناك جفاه مرقده".
كنت أظنّ تلك الأغنية غير عربية، وأحياناً أنصت إليها، لأجد فيها تشابهاً مع تعابير القرآن الذي كانت له مناسباته في البيت أيضاً، في ذكرى عاشوراء، التي كانت تحتفل فيها أمي على طريقتها، فتقيم مجالس العزاء في البيت وتدعو الجيران إليها، وتبدأ بآي من الذكر الحكيم، قبل أن تضع أمي شريطاً لسميّتها القارئة حسيبة، التي كانت مشهورة في النبطية في ذلك الوقت، لجمال صوتها، وقدرتها على إبكاء النساء في مجالسهن، وكانت أجمل مراحل المجلس، توزيع البونجوس والراحة والبسكويت في النهاية، طبعاً من بعد تناول "الهريسة". وحسيبة كما جاء في سيرتها على موقع "النبطية" الإلكتروني "أحبت الحسين (عليه السلام) فسقاها من إكسير خلوده... تطل في كل عاشوراء مكذبة الموتى ساخرة بالزمن... تطلق صوتها فينساب في أزقة حي السراي وبيوتاته وفي ساحة عاشوراء ليسكن القلوب دافئاً عذباً شجياً، فيلهب الجرح الذي لن يلتئم أبداً.. جرح كربلاء". وحسيبة إياها، ذكرها شوقي بزيع في إحدى قصائده النضالية والمقاومة، التي تحول بعضها إلى أغنيات بصوت مارسيل خليفة.
هكذا كان البيت مغموراً بالموسيقى التي بدت لي دائماً ذات بعد روحي وإسلامي، قومجي احياناً و"مقاوم"، حتى تعرفت إلى اغنية "بلاش تبوسني" وكانت تلك ليلة لم أنم فيها لحظة واحدة وأنا أفكر في النغم الذي راح يدبّ كالنمل في جسدي. هنا بدأت ألمس روح الموسيقى، خصوصاً تلك التي يصنعها عبد الوهاب كمن يصنع نبيذاً، يصير أطيب كلما مرّ عليه الزمن. وانتبهت إلى أن عبد الوهاب يختلف كثيراً عن الآخرين، وأنه يمسّني بالصميم حينما أنصت إلى ألحانه، وتناغمها مع كلمات أغنياته، كما إلى صوته الذي بدا حنوناً، يعوض عن غياب صوت الأب، الذي لطالما كان الحوار معه مقطوعاً.
ذات يوم، خرج الرجل من منزلنا ولم يعد. ذلك اليوم كان يوم وفاة أختي. تسلل الحزن إلى البيت كغيم الشتاء، احتل سماءنا، وبات يشكل نقطة ارتكاز حياتنا وعلاقاتنا ببعضنا البعض. كان الموت أشبه بأغنية تستحوذ على الذاكرة ولا يلتقط اللسان غيرها. كأنها تعاد في شريط أبديّ لامتناهٍ. هكذا كان الأمر بالنسبة إليّ في الأيام الأولى، ثم ما لبثت الأغنية أن تغيرت، وصارت على الشريط أغنيات أخرى تنحو كلها نحو الحزن والمرارة. صارت كربلاء في منزلنا، وصارت أمي حسيبة، أشبه بحسيبة قارئة العزاء، إذ صارت تنوح كل يوم حتى يختفي صوتها وتختنق بنحيبها وتنام.
مرّ وقت الحزن بطيئاً. خرج البيت رويداً رويدا من طقوس الحداد. تقلصت زيارات الأقارب والجيران، وعدنا عائلة صغيرة من أم وأب وثلاثة صبيان، أكبرهم أنا، وأكثرهم هشاشة، بالروح والجسد والعظام، لكنني أكثرهم تماساً مع الموسيقى والأدب. ووجدتني بعد انسحاب عساكر الحزن من ارضنا، استبدل راياته، ولحنه الحزين بألحان أكثر بهجة، حتى عثرت يوماً على الرجل الذي كان في بيتنا، مختبئاً في أحد الأدراج، وعلى الكاسيت العتيق أكثر من ست أغنيات، من بينها، على ما أذكر، "يا ورد مين يشتريك"، التي ابكتني كأنما بها مجلس عاشورائي. وصرت أفكر لماذا لا يستخدمون أغنيات مماثلة في المجالس طالما أنها تؤدي الوظيفة التي يفترض بالسيرة الحسينية أن تنجزها. لكني لم اطرح فكرتي هذه على أحد، لأنني لا أحب التدخل في شؤون الآخرين. لهم سيرتهم الحسينية، ولي سيرتي الموسيقية.
وسيرتي هذه، لم ترتبط بمحمد عبد الوهاب وحده، ولم تقتصر على عدد محدد من الفنانين، بل وجدتني أكتشف في مشواري الفنيّ (على ما يقول الفنانون) مطربين وملحنين يصيبون مني مصرعاً، بالمعنى المجازي طبعاً. ومنهم عبد الحليم حافظ وفيروز وسيد درويش ونجاة الصغيرة... وصولاً إلى مارسيل خليفة وزياد الرحباني وخالد الهبر وسامي حواط. هنا كنت قد بدأت أتعرف إلى طلاب شيوعيين في المدرسة. وكنت أخاف من هؤلاء، لأن الشيوعي كان رديفاً للكافر. وكنت لا أزال أعتقد أن الله لديه حبالاً يدليها من السماء ليشنقني في نومي إذا ما أقدمت على الكفر أو الإلحاد. وكنت أطرد الله وحباله بالبسملة، أي أداويها بالتي كانت هي الداء. ومع تقدم معارفي بهؤلاء الطلاب، بدأت أكتشف عالماً موسيقياً مختلفاً، يمسّ الوتر الإجتماعي والسياسي، وصرت اشتري من السوق أشرطة لزياد الرحباني واسمعها في سيارة أبي، ومن بينها مسرحيته "فيلم أميركي طويل"، التي جلّ ما أعجبني فيها في ذلك الوقت السباب والكلمات البذيئة التي يستخدمها رشيد من وقت إلى آخر.
على هذا المنوال نسيت الله وحباله، وصرت ألعب على حبال اليسار، مع حذري الشديد من الوقوع في احد أحزابه، لأنني لطالما سمعت ابي ينبّهنا من مساوئ الإنتماء الحزبي. وهكذا كان، وبقيت صديقاً لليسار، لكني لم انتم إلى أي من أحزابه التي كانت تنتشر في المدرسة. أما اليمين المتمثل حينذاك بحركة أمل، فكان يبدو لي بليداً في صناعة الفنّ، يقتصر الأمر معه على الأناشيد الجوفاء.
جمعت رصيداً جيداً من الثقافة الفنية على مدى سنوات. كنت أشتري الأشرطة واجمعها في خزانتي، حتى وصل عصر الأقراص المدمجة، وصرت اجمع المال من العيديات لأشتري انتاجات موسيقية غربية، من الجاز إلى البلوز، إلى الموسيقى الكلاسيكية. وكان أخي الأصغر يهددني دائماً بتكسير وإتلاف كنزي هذا اذا لم استجب لمطالبه. ونظراً لهشاشتي التي سبق وأشرت إليها، كنت انصاع، لأنه في المرة الأولى التي رفضت فيها طلب إعارته حذائي الرياضي، رمى أربعة اقراص مدمجة من عن الشرفة لتتهشم على الإسفلت. وطبعاً كان أخي من روّاد الفن الحديث آنذاك، اعني من محبي راغب علامة ونوال الزغبي ووائلكفوري وغيرهم.
كنت أسمع هؤلاء، لكنني لم أشعر يوماً بأن أغنياتهم تغني أو تسمن من جوع إلى التعبير. حتى لو تهشموا على الإسفلت بكميات كبيرة ما كنت لأحزن عليهم. اليوم لا أحزن عليهم أيضاً، بعد إضافة آلاف الأسماء المستنسخة من الفنانين والفنانات. شعوري نفسه ينطبق اليوم على احسان عبد القدوس، الذي كان صديقاً لعبد الحليم حافظ ويعتبره ثقيل الظلّ على المسرح، لكنه يرى في صوته خامة لن تتكرر. لا أذكر شيئاً من أدب عبد القدوس، وكأن مكانه في ذاكرتي قد تهشّم على اسفلت الأيام. ارى اسمه احياناً في بداية بعض الأفلام والمسلسلات المصرية القديمة، اذكر منها "دمي ودموعي وابتسامتي". أبتسم كأنني ارى وجهاً قديماً لا يسعني التأكد من ملامحه. وأقلب المحطة، لتظهر هيفاء وهبي أو نانسي أو سواهما. فأراقب حركة الزمن في تمايل الأجساد المثيرة. أقلب المحطة، لأسمع أم كلثوم على قناة الطرب تصرخ: "إنما للصبر حدود... للصبر حدود يا حبيبي".