فننا الكبير
كانوا أوقفوا عمر ورياض، ولأسهّل الأمر على نفسي قلت إن التملص عبث وانتظرتهم في منزلي بعد أن لبست شيئا سميكا لأتقي الضرب. فوجئوا بوجودي وكانوا يظنون أن رجلا ناضجا مثلي لا بد سيلجأ إلى الإختباء. أما أنا فآثرت الذهاب إلى السجن بدلاً من التورّط في مماطلة لا أحسنها، إذ لا طاقة لي على أن أبتكر لكل ساعة وأحتال لكل ليلة وأرتجل كل يوم شجاعة جديدة. كنا وزّعنا مناشير ضد الجيش واستحقينا السجن. علموا كل شيء من عمر، ومع ذلك كان عليّ أن أنكر تفاصيل لا يمكن دحضها. فقد روى كيف أعطيته مالاً لأجرة السيارة وإلى أين ذهب ومن وجد هناك ومن سلّمه المناشير... إلخ. مع ذلك فإن عليّ أن أنكر لأن إنكاري يضعف القضية، كنت أفهم أن أحمي اسراراً بصمتي أما أن أرفع قدمي على آلة الفلق وأدور حولها كالفرّوج وأحتمل على كفي ضربات السوط لكي لا أُضعف القضية ولا أزيد أدلة الإثبات، فهذا ما لا أفهمه. سكت يومين ثم لمّا رفعوا عني الضرب تكلّمت خوفاً من أن يعاودوه. قضيت في السجن أسابيع لم أفكّر خلالها في أنني ظُلمت أو أنني ضحّيت من أجل مبادئي. جوزيت على شيء كنت أعرف تماماً نتيجته فلم أتظلّم، وقال لي المحقق لو كنت مظلوماً لنزلت من عينيك دمعة. لم أشعر أيضا بالرضا لأنني ضحّيت، وحين صادفت زميلاً أحذ يحرّضني بالقول إن الثورة الصينية انتصرت في كذا سنة والثورة الكوبية انتصرت في كذا سنة، أمسكت نفسي عن السخرية التي غلت في قلبي ولم أجد نسبة بين قدميّ المتورمتين ووجهي المحبحب وانتصار الثورة الكوبية.
لم نكن سذجا حتى الإيمان بأن الثورة عندنا ستقوم أو تنتصر، وكنت هنا لإثبات أمر آخر. أمر آخر أثبته لنفسي ولا أدري أو لم أعد أدري ما هو، لكن ما فعلته كان بالنسبة إليّ اختياراً خاصاً، ولم أستطع أن أراه جزءاً من مسيرة. ذهبت إلى اليسار الشيوعي كما ذهب غيري من أمثالي يومذاك. كان ذلك مقدوراً علينا، ولم نذهب بفعل تجاربنا الخاصة، وأنا لم تكن لي تجربة. لم أكن ميسوراً لكني لم أنتبه إلى أنني كذلك، وكانت لي حاجات ألبّي بعضها ولا ألبّي بعضها، لكن ما لا ألبّيه لا يورثني حزازة ولا أذى، وأخرجه بلا جهد من تفكيري.
زملائي الأكثر قدرة مني لم أحسدهم. كنت أحسب أن ما عندي يفوقهم. حضور فيلم أو أكل قرن بوظة أو شراء ساندويش زيادة لم تكن أموراً تقارن بفني الكلامي ولا بالثروة التي أملكها في لساني. هذا الرصيد الكلامي الذي يتضخم بدون جهد كبير هو كل ما لديّ. كان في الواقع عالياً ودافقاً بحيث عطّل أي إمكانية حياة أخرى، إذ كيف يمكن تحويل هذه المملكة إلى تدابير وأعمال ومبادرات، فذلك أشبه بصناعة منافض سيجارة من ماس. كيف يمكن مع هذه المملكة مغازلة فتاة أو، بحسب تلك الأيام، ملاحقتها في الشارع؟ كان ذلك بالنسبة إليّ سخفا بالطبع لكنه يحتاج إلى جرأة لا أملكها. كيف لي أن أمشي بخطوات طبيعية وأنا أفعل ذلك؟ كيف لي أن أقول تلك الكلمات البلهاء "حلوة، حبيبتي" في أثر الفتاة بصوت طبيعي؟. أستحق مباراة أفضل بالطبع لكن النتيجة كانت مخجلة، ومن هم دوني يصلون بسهولة إلى ما لا يتسنّى لي. حتى حين أفعل مثلهم لا أنجح، وأبدو في الغالب غير واثق وثقيلاً، حتى الكلام القوي لا يؤثر كما تؤثر بسمة أو وسامة. لا بد أني أقبح من أن أؤثّر.
لاحقت مرة فتاة طوال الطريق لكني لم استطع قول تلك الكلمة، وحين صعدت إلى بيتها وقفت لحظة تحت شباكها، ووجدتها تفتحه على وسعه وتسألني من فوق ماذا أريد منها. هذه المرة لم أستطع نطق تلك الكلمة، قلت لا شيء وانصرفت. لم يكن بين مجايليّ من يتكلم مثلي، ليس فقط جُملي ولكن أيضا لهجتي. في طفولتي وجدوني لذلك غريباً فسمّوني الشاعر وقلبوها بسخرية إلى "شارع". عندما كبرت قليلاً نسوا هذا اللقب المؤلم وتخلصت أنا بصعوبة من رضّته. انتبهت إلى أنني أعيش بين أناس لا يحسنون الكلام، وكان ما أقوله إعجازاً بالنسبة إليهم. يصغون إليّ في الحلقة وأنا أتقدّم في الحكي وكلما استرسلت تحطمت طبقة من خجلي واستطعت أن أتفكّه وأن أُمتّع. لا شك أن الطفل الذي جعلوه أضحوكة بسبب موهبته يثأر الآن، ولقد نجح في أن يبهرهم أخيراً. أثناء ذلك كم طوقا من الخجل لبسته نفسُه، كم ملاطاً من الابتلاع والتظاهر والصمت. إنه الآن يبسط عليهم ظل كلامه، وهم الآن تحت هيمنته. لم تكن أموالهم ولا أشكالهم مهمة ما داموا لا يحسنون الكلام. كنت أستطعم كلامي، أتذوّقه قبل أن يخرج مني وأحسّ أن جوفي معسّل به، أنتشي بحالي وأجعلهم عبيد هذه النشوة. ماذا كانوا وأنا أتكلم، فانين وما يملكونه فانٍ بالطبع. مع ذلك كان كل شيء أسهل عليهم. يصلون إلى النساء ويربّون صداقات ويمضون أيامهم بسهولة فيما كانت كل خطوة مني تجاه أيّ شيء تتطلب جهداً مضاعفاً. فيما كنت متأهباً دائماً وأمام تحدّ مستمر، وحتى فني الكلامي ما كان ليظهر أمام من لا يبالون به، وكان يمكن أن يتحول إلى لجلجة إذا قوبل بالإهمال. كنت أحتاج إلى حماية وإلى ما يشبه الحياة في الأكواريوم. كثيراً ما أبتلع لساني أمام أي درجة من الهجوم أو الازدراء، ومن الممكن في لحظة أن أعود "شارعاً"، وأنطوي في صمتي. كنت سابحاً في فني بالطبع لكني أخرَقُ في كل شيء آخر، حتى في الطعام لا أحسن معالجة صحني، أترك لطخة في كل مكان ولي في كل لخطة غلطة. بالطبع لم تكن هذه الأمور مهمة في نظري، إنها سخافات ولا عبرة بإتقانها. لم أكن نافعا للترتيب ولا الحرتقة ولا السباحة ولا الرقص ولا الحب الذي بسبب ذلك تأخر كثيراً. لم أكن نافعا لذلك ولا أحتاج إليه. بإمكاني الحياة بدونه. لا أحتاج إلى أن أتعلّم شيئاً. لا تحتاج حياتي إلى تجربة. إن لي الوقت كله وأستطيع أن أخلق فيه.
كان مقدورا علينا إذاً أن نكون شيوعيين. الشيوعية بالنسبة إلينا أشبه بطبقة صوتية ملائمة أو موجة يمكن التحدث عليها. لا نحتاج سوى إلى تدريب بسيط لنحسن ذلك، ولا بد بالطبع من بعض السهر. بقليل من القراءة والإصغاء والتمرين يغدو فننا كبيراً ومتيناً لدرجة نُذعن لها نحن أيضاً. إنه الآن ينتمي إلى فنّ أكبر وأعظم بالطبع، فنٍّ كان لعدد قليل من الكلمات والصيغ أثر عجيب في تقويته وجعله فاعلاً. غدونا نحن أكثر اقتناعاً به وكأننا نسمعه من غيرنا، وبدت ابتكاراتنا وحتى حذلقاتنا صحيحة، وصار كلامنا حقيقياً لدرجة أننا بتنا أول المؤمنين به. هذه بالطبع لعبة مع أنفسنا صرنا نظنها مع الوقت قانوناً.
كان لنا معلّم في داخلنا وغدونا تلاميذ أنفسنا. ليس في ذلك قوة شامانية بالطبع، فقد عثرنا على الطريقة وها هي تعمل من تلقائها. قمنا بترتيب صحيح ولا بد أن هذا أنتج. تفكيرنا الخاص، بتدريب ما، لا يعود خاصاً. إنه بانتفاء لما هو شخصي وبأدوات غير شخصية ينفذ إلى طبيعة الأمور. أما متى يحدث المسّ، متى تندلع شرارة الواقع، فهذه كمسألة الخلق تبقى حلقة مفقودة. المهم أن فنّنا يتحول هكذا إلى نظام ويكون علينا أن ننحني له قبل غيرنا. وسنكون أول من يصدّقونه وستستمر هذه الخدعة طويلاً. سيكون علينا أن نصغي بامتثال عميق لأنفسنا، أن نترك حجرة للتاريخ أو الواقع في رؤوسنا، حجرة أو مرصداً، وأن نقدّم تقارير عن الواقع أو التاريخ بدون أية نية في أن نفعلهما. كان كلامنا متقاطعاً ومتشابكاً وكأنه خريطة أو صورة جوية لهما، يهمنا أن يكون مطابقاً لكن بدون أي أمل بشيء آخر. من كمال تحليلنا ذلك الوقت أن يكون الواقع متكاملاً ولا نفاذ ممكناً إليه.
لم نفكر في أن نبني اشتراكية في لبنان، وكان تحليلنا قائماً على استحالتها، لكن ذلك لم يمنع من أن نكون اشتراكيين بل زادنا إصراراً. كان هذا اليأس يجعلنا جنود المستقبل أو جنود المستحيل، وهذه المجانية تليق بعمل لم يكن في قراراته إلا فناً. حين بدأنا نقترب من مسائل عملية كالانتخابات مثلاً صعب علينا الانتقال، فقد كان تحطيم هذه المرآة إلى أجزاء صغيرة صعباً للغاية. كنا جميعا غير راضين عمّا وجدناه في أيدينا، والحطام الذي حصلنا عليه كان محزناً، وفننا العظيم يتحول إلى حرتقات صغيرة. اختلفنا وتفرّقنا. أغلبنا كتب أشعاراً وقصصاً. كانت هنا الكسر المتبقية من فنّنا الكبير.
اسهارْ بعد اسهارْ
في السابعة والعشرين حضرت أول عيد رأس سنة، كان هذا أيضا أول حفل لي من نوعه. ذهبت منفرداً وكذلك صديقتي المخطوبة، فالعرف لا يسمح لنا بأن ندخل معاً. الاحتياط قضى بأن نبقى منفصلين معظم الوقت، ولمزيد منه أن ينضمّ كل منا إلى حلقة شريكاً آخر. مع الشرب والوقت قل الاختلاف من جَمعة إلى أخرى واستقر كل في حلقته وانفرد بشريكه. كانت شريكتي فتاة جميلة تعرّفت عليها من سنين في نشاط شبابي، ومنذ اللحظة الأولى وجدنا دافعاً للتقرب من بعضنا بعضاً ودخلنا في جوّ من الخفة والمرح والتواصل السهل، لكننا استنفدنا ذلك كله في اللقاء الأول تقريباً ولم نتجاوزه بعد ذلك أبداً. يحدث ذلك معي كثيراً وأظنني لست وحيداً فيه. كانت شريكتي ثملة وهذا ما دفعها غالباً إلى أن تبقى لصقي يدعوها خوفها من وضعها إلى الإحتماء بي. لم أكن ثملاً لكن شربت كفايتي وهذه الدعوة وصلتني وتقبّلتها بسرعة. درت معها في الرقصة، ولم أكن راقصاً جيداً لكن الرقص في هذه اللحظة لم يحتج إلى أكثر من أن أطوّق ظهرها بذراعي وتطوّق عنقي بيديها. كنا قطعنا وقتاً كافياً من السهرة والرقص والشرب، لذا شعرت بأن السهرة لم تعد واحدة وأن كل اثنين أو ثلاثة، وكل حلقة، في غيمتها الخاصة، وأن شيئاً من الخصوصية يحصل بين الأزواج والجمعات. لم أكن واعياً لأحد وأفترض أن أحداً لم يكن واعياً لي. كان الرقص الآن هذا الضمّ وجرّ قدمين بأي خطوة وفي موضعهما تقريباً، فالحلبة في هذه اللحظة كانت مساحة متحركة والموسيقى كانت نوعاً من رحلة خاصة. وضعت الفتاة فمها على أذني وبدأت تغني "اسهار، بعد اسهار" لفيروز. عصرتني يداها وتطابق جسدانا، وانضغط صدرها في جسدي ودخلت في حوضها. وحين كنت كلياً في غيمتي أدور فيها، أخذت ألاحظ أن ثمة غيوماً أخرى تمر قربي، وفي واحدة كانت صديقتي المخطوبة تريح رأسها على صدر أجمل شبّان السهرة.
لم يكن في الواقع أول عيد رأس سنة أحضره، قد يكون الرابع أو الخامس، لكن العيد كان جديداً عليّ. بل كانت سهرة العيد التي تضم جمعاً غير متعارف بالضرورة ولا تجمعه حال واحدة جديدةً عليّ. كنا بدأنا من زمن نزدري حياتنا ونكره أثناء ذلك مناسباتها وأعيادها. ولم يكن هذا من أشخاص معدودين أو حتى نواة مثقفة فحسب، بل كان استعداد طبقة كاملة بدأت تكوّن فكرتها الخاصة عن الحياة المدينية. لم يكن في هذه الفكرة أي إبداع أو اقتراح وكل ما فيها نبذ وتخلّ عن تقاليد اعتُبرت، بدون سبب، عاميّة وبلا ذوق. هجرت هكذا تقاليد العرس وتقاليد الطهور وتقاليد الجنازة وتقاليد الصيام وتقاليد الموالد وتقاليد السيران والرحلة... وبالطبع تقاليد الأعياد. لقد بدا لنا أن النضج والتعقل يقتضيان الحياة بدونها وأن التمدين الحقيقي ينافيها. كنا نتخلى عن حياة قائمة بدون اي بديل من أي نوع. بالتدريج صرنا عملياً بلا حياة. الأعياد نفسها حصرناها بالأطفال واعتبرنا أن الرشد والبلوغ يرتبطان بالتخلي عنها. كانت مدننا مرتجلة وأشبه بمخيمات، أما حياتنا فيها فغدت في النهاية عدداً من ضرورات البقاء لا أكثر. المأوى والتسوّق والعمل المنزلي والزيارات للنساء ولعب الورق في المقهى للرجال، كل هذا لا يحتاج إلى أسلوب ولا طريقة، كنا نباشره كما هو بدون أن نوجد فناً ما للإقامة أو الأكل أو اللعب. حسبنا أن أقصر الطرق إلى أغراضنا عين العقل، وأن الزخرف والاستعداد والطقوس هدر للوقت وتضييعه على النوافل والمظاهر، هذا فضلا عن كونه سخفاً وتقليداً. لقد كنا في الواقع نتّهم المخيّلة، كل لحظة، بأنها الأخت الصغرى للرياء.
لا أعرف إذا كان الآخرون يفكرون مثلي في أن سهرات رأس السنة كانت بداية ابتكار حياة بديلة. معها ابتدأت أيضا الأعياد الشخصية والحفلات الخاصة. لقد بدأ إشغال الليل، إذ إن حياتنا في الأساس قامت كلها على النهار، وأعيادنا وأعراسنا ومناسباتنا كلها نهارية، والإفطار على حدود النهار ولو بدا أنه يقتطع مع السحور هامشاً من الليل. لقد بدأ الآن كل شيء في المقلب الثاني الفارغ لحياتنا وفيها، بدون رقابة ولا اعتداء على الزمن الشرعي، تكون البديل. كان الأمر في أوله باهراً، لقد انفتح باب جديد وكان علينا أن نبتكر، وقد ابتكرت خروقات وخيانات كبيرة. بدا أن شيئاً يشبه حق الخيانة قد تعمّم، ففي مدينة صغيرة كهذه تنتهي الحفلة كل مرة بإباحة ما. في عزّ الرقص تنفرط زواجات وتتكون علاقات محرّمة وتُتحدى شرائع راسخة. كان هذا حق السهرة، يتكلم عنه الناس فيما بعد خلسة وربما يتجاهله المعنيون. يفضّل الزوج الذي وجد زوجته في أحضان آخر والزوجة التي رأته منفرداً بأخرى أحياناً كثيرة أن لا يعودا إلى الموضوع، فهذا من حق السهرة وما يحصل في السهرة يبقى فيها. لم أكلّم صديقتي ولم تكلّمني، أما الفتاة التي راقصتها والشاب الذي راقصتْه فبقيا دائما، بالنسبة إليّ وإليها، ذلك الثالث الذي هو شريك دائم في الرقاد الغرامي.
لا أعرف ماذا جرى تماما بعد ذلك. استمرت سهرات رأس السنة، لكن في السهرة العاشرة أو الخامسة عشرة، لا أذكر، التقينا في بيتي. حضر كل مع زوجته وجلس جنبها. صديقتي السابقة أيضا حضرت مع زوجها. جلس الجميع جنباً إلى جنب في حلقة واسعة منتظمة على طول الصالة وعرضها من كنبات وكراسٍ، ثم قاموا إلى المائدة وعادوا بصحون كبيرة وكؤوس ملأى. تكفّلت النساء بملء الكؤوس من جديد وإعادة ملء الصحون. تحدث الجميع للجميع مع استثناءات جانبية بين الجيران في المقاعد. دار الكلام في السياسة الذي تذمّر منه البعض ووجده غير جدير بالمناسبة. انتقل الكلام إلى رواية النكات وطال حتى طفا. عندئذ نهضت النساء ورقصنَ وحدهنّ. أحيانا كان الزوج يقف في الحلقة أمام زوجته ويهز خصره قليلاً ويرفع كتفه ويده ضاحكا من نفسه وكأنه يقوم بفاصل تهريجي، يُتبع ذلك بحركات مستهجنة ثم يعود إلى مقعده. استمر هذا حتى سئم الحاضرون منه. كانت الساعة تجاوزت منتصف الليل بساعة وأكثر، وصار هناك عذر للخروج فخرج اكثر الساهرين وبقيت قلة تفرّقت واحداً واحداً، لكنْ قبل أن يتم ذلك دخلت صديقتي مع أخريات إلى المطبخ وغسلنَ الآنية.
حلم ريشة
لا أعرف متى شعرت أني أفكر. لا أذكر عمري آنذاك ولا هيئتي ولا طولي. كنت نحيلاً ونحيلاً جداً، يتعجب الكثيرون من نحولي ويروزونني بسواعدهم وأكفّهم أحياناً مظهرين أنهم لا يشعرون بوزن. كانت أمي تنظر إليّ كممروض وتجتهد في أن تقيتني بكل ما هو أحمر في اللحم. ابتلعت بالرغم عني كثيرا من الطحالات التي تعجّ بدمها وكثيرا من الكبد النيئ والكروش المحمرة التي أغالب قرفي منها. كانت تلحقني بها وتكرر على سمعي أني ضعيف وأضعف من ريشة. لم أسمن لكنْ استقر عندي أني ضعيف.
كان أبي معلم المدرسة الوحيد ومديرها، يقوم وحده بعدة صفوف، أما أنا فتعلمت القراءة قبل سنّ التدريس. كنت ألحقه إلى المدرسة وأجثم في تجويف النافذة ومن هناك أجاوب بدلاً عن التلاميذ. كانوا فخورين بي في البيت والقرية مما جعلني معتداً ومدللاً. هكذا رحت أدفع التلاميذ وأضربهم وأقفز عليهم إلى أن لاحظ أبي أني أستبد بهم فقال لهم، ليردعني :"رُدّوا عليه". بهتني ذلك ومنذ ذلك الحين كففت خوفا. وقع في ظني أنهم سيجازونني ويقسونني إذا تجرّأت عليهم. لم يبق حديث أمي عن ضعفي في الهواء. وجد بسرعة محكاً. كنت حقاً ضعيفاً وخوّافاً ولا أجسر على أن أبدأ عراكاً.
لا أعرف متى شعرت أني أفكر، ولا أعرف صلة ذلك بنحولي وضعفي. لا بدّ من سبب لأفكر فيهما معاً. كنت أخفّ من ريشة، الريشة تفكر بسهولة أكثر من كومة لحم. إذا كان الضعف لا يقوى على العراك فهو أقدر على التفكير. لا بد أن هناك أموراً تجمعهما، فالأفكار هي أيضاً بلا وزن، وهي أيضاً خفيفة طائرة. كنت خوّافاً وضعيفاً في حين أن كل شيء كان يُحسم عندها بالعراك. لا بد أن هذه الأفكار التي تزورني بلا انقطاع لم تأت للاشيء.
كنت أدور مع صاحبي في القرية. لا أذكر أين، فالقرية كلها بهتت في ذاكرتي وحين زرتها بعد خمسة وعشرين عاماً وجدت جميع ما فيها بحجم أقلّ بكثير مما تخيّلته. البركة أصغروالنهر أقرب والأشجار أقل. أذكر فقط أني كنت أجر فيها شنتتي (ثوب كالجلابية)، التي عانيت لدى استبدالها بالبنطلون، تروما حقيقية وحنيناً فعلياً. لا بدّ أن اقترنتْ في بالي بالفضاء والتجول والحرية... والتفكير. كنت حينها إبن خمس أو ست، لا أذكر، لكن بات لي منذ ذلك العمر ماض وصار في وسعي أن أنظر إلى الوراء. لا أعرف ما الذي كرهته في البنطلون. أظن أن الشنتة ارتبطت في ذهني بتلك السياحة في الحقول وفي الأفكار. لم أكن أنتقل فيها برأسي بسرعة فحسب، بل بجسدي، وبالطبع بشنتتي. لربما أحسست أن البنطلون يعوقني عن الإنتقال في أفكاري، وأن الشنتة تحملني أسرع.
هذه الأفكار التي كانت أيضاً تجوالا تحتاج إلى الهواء والفضاء والشنتة المفتوحة تؤمّن ذلك أكثر. التفكير لم يكن في الذهن فقط، كان يتم بالأيدي والأرجل والرأس ويتم بالمشي والركض بالتأكيد، وحينما كنت أفكر، أفعل ذلك وأنا أرقص وأقفز وأتعمشق وأطير. لم يكن البنطلون، كما توجست، مؤاتياً تماماً، لذا كرهته وظللت وقتا غير قليل أتحسر على شنتتي، تراءى لي أنه سيثُقل حركتي وتفكيري وأنني معه لن أستطيع أن أكون فيهما حراً بما يكفي.
التفكير لم يكن أسئلة فحسب. كان في الغالب قصصاً وسيناريوهات. لا أذكر تماماً كيف كان. كان شيئاً يسير من تلقائه وينتشر، نوعاً من سياحة لطيفة. ربما لم يكن الأمر كذلك تماماً، إنما لا بد أن وقتاً مضى قبل أن ننتبه إلى أن هناك فرقاً بين أن نفكر أو أن نعيش قبل أن نخلّص هذا من ذاك. حين انتبهت غمرتني السعادة. كنت عند نفسي الوحيد الذي يفكر، الذين أصحبهم لا يظهر عليهم أنهم يفكرون. يصمتون لحظة قبل أن يقرروا شيئاً، لكن هذا لم يكن التفكير. التفكير لم يكن للإختيار بين الذهاب إلى البركة أو إلى الدكان، لم يكن لأي سبب، كان لنفسه فقط. أن أفكر يعني أن أفعل كل شيء بخيالي. يعني أن يكون هناك واقع آخر في رأسي. أن تكون هناك أمور تحصل بمجرد أن تخطر. كان هذا اعجازياً، سحراً خالصاً، وبالتأكيد امتيازاً هائلاً.
كان عالمي، كما أظن، يزيد عن الذي لأصحابي أضعافاً مضاعفة. ليس هناك أصلاً سبب للقياس. كنت بالقياس لهم هائلاً. جميعهم لا يملكون ظفراً مما أملك. ليس لديهم بالأصل تلك المَلَكة التي أُعطيت لي. كنت تحت رعاية خاصة. لي طبيعة أخرى. كنت وحدي، وربما في العالم كله، أفكر.
لي وحدي أيضاً قدرات أخرى، كنت قادراً على أن أفعل بالجسد شيئاً مما أفعله بالفكر. لم أشكّ في أن ذلك ممكن حتى وإن لم أفعله. لاحظت في يوم أني أسير في خفة تشابه الطيران. حين فكّرت في ذلك بدأ مشيي يشابه الطيران أكثر، لدرجة أني بدأت أسير بارتفاع قليل عن الأرض. بدا أني، على نحو ما، أسبح في الهواء. كان هذا تمريناً يندمج فيه خيالي وجسمي، ولوقت طويل بقيت أمارسه، ولا أذكر متى فقدت القدرة عليه. لكنّي حتى الآن متأكد من أنني طرت قليلاً من قبل.
حين تخليت عن شنتتي عصر قلبي حنين قاس إلى الشنتة وإلى شيء أكبر من ذلك، لا أعرفه لكن بدا لي أني أفارقه مع الشنتة. كان الحنين اكتشافي الثاني، دون الآخرين. كنت آنذاك الوحيد الذي يحن. سيعترضني هذا الحنين في كل فقرة من حياتي. كل قفزة ستخلّف وراءها ماضياً جديداً لا عودة إليه.
حين غادرت القرية كنت أعرف أني لن أبقى فيها. ولدت فيها وأمضيت طفولتي لكنها لم تكن قريتي ولا بلدي. في هذه البلاد قلما نولد في مواطننا ولا ندين بشيء إلى حيث نولد. نعرف مهما طال الوقت أننا عابرون وسنغادر في يوم بلا عودة. مع ذلك عصر قلبي حنين ممزوج بالخوف، أو خوف كبير ممزوج بالحنين. كان عليّ ثانية أن أترك بدون أن أنظر إلى الخلف. كنت في الثامنة أو التاسعة يومذاك لكن بدا لي أننا ننتقل دائما إلى شيء أضيق. جعلني البنطلون مرئياً أكثر ومسؤولاً أكثر. أخرجني من الإغفال الواسع الذي خلت أن الشنتة تضعني فيه، وها هو الانتقال إلى المدينة يجعلني مجدداً تحت العين، ولن يكون بعد في وسعي أن أختفي بالقدر نفسه أو أسوح على راحتي.
الحنين كان أيضاً لعنتي أو هو طبيعتي الثانية التي أتناساها إلى أن تداهمني مجدداً وتملأني خوفاً من نفسي. ينعصر قلبي لدى ذكر أي فراق. أذكر كيف شقّ عليّ في فتوّتي أن أتخيل فراقاً لعادة كالتدخين قضى فيها الواحد 40 عاما. كان هذا بالنسبة لي خوفاً من الأبدية. أقول في نفسي كيف يستطيع الأنسان أن يترك إلى الأبد شيئاً، أي شيء. أتخيل أن في هذا ذهابا في العدم إلى لاعودة. حين لا يكون هناك أقل فرصة لبقاء أثر ما، حين لا يعود هناك سوى التبدد الكامل.
مع ذلك كان حنيني للشنتة وحنيني للقرية بلا موضوع تقريباً. لعله ليس سوى خوف من شيء أكبر. لم أحاول العودة إلى القرية. رغم أن هذا يكلف أقل من ساعة في السيارة، لم أفكر في العودة. لم تعش اللوعة أكثر من يوم . كان همّي فقط أن لا يلاحظ أحد أنني ابن ريف. بالفعل بدلت لهجتي في ليلة واحدة فلم ينتبه أحد في الغد إلى أنني أميل بالياء. كأن لم يكن الحنين حقيقياً وليس سوى فكرة تعذّب أكثر بكثير من الواقع. أوكأن ذلك كان مصروفاً إلى شيء آخر، إلى فجوة أصلية، وجرح أصلي لا أعرف متى تكوّنا.
تبدو الأشياء مرعبة في الخيال والفكر أكثر مما هي في الحقيقة. ربما أعاني من "ميوب" في عقلي. أعيش في رأسي دائماً وكأني لا أرى أو أرى دائماً بشيء من الانحراف.
وصلت إلى صور ابن تسع تقريباً. مذاك اجتهدت لأنخرط ونجحت بمقدار. تقدمت ما حسبت أنه يكفيني ولم أتجاوزه. فعلت ذلك بتصميم وكلفتني كل خطوة شيئاً من العناء، وكان لا بد من أن أتوقف قبل مسافة وأن لا أكمل. الإندماج لا يتم بإرادة وحساب، وأنا لم املك حتى الفضول لأفعل. لم أكن مهتماً، بقيت هكذا بين بين. أنجح حين لا يجربني أحد في أن أبدو صورياً. صحيح أني لم أتقن السباحة، لكن لم أكن الوحيد. لم أعرف بما يكفي أخبار الحي وأهله لكن أحداً لم يمتحنّي. بالطبع لاحظوا شرودي لكن الأسوأ كان ملاحظتهم لتفوقي. تباهيت بقدرتي على قراءة القرآن وتلاوته، وكان هذا أعلى بكثير من قدرات أولاد جاؤوا من بيوت لم يروا فيها كتاباً، لكنه لم يكن، مع ذلك، تحدياً حقيقياً. لم يكونوا قادرين على فهم أن شيئاً كهذا قد يكون مجالاً للتسابق. نظروا إليه باستغراب. وجدوه فقط طريفاً ثم ما لبثوا أن ضحكوا منه كأنه نوع من الأكروباسية.
كان تفوقي محل رهان خاسر. جرحني هذا لكني لم ألبث أن تسلّيّت. أمتلك باستمرار هذه الحياة الموازية التي أطير فيها على كيفي. لم أندمج كلياً، لم أكن بحاجة إلى الاندماج، أخذت منه حاجتي وما بقي بقي لي. كنت ألعب وحدي، ألعب بخيالي وقدمي، لم أكن بحاجة إلى آخرين. أقرأ ساعات وأغيب في القراءة إلى أن أنتبه إلى صياحهم يدعونني إلى الغداء. أتعمشق على سطح المطبخ لأصل إلى الدالية المنشورة فوقه ثم أسقط بخفة عنه كالعصفور. لي أصحاب في الصف لا أشاركهم في اللعب. أصحاب في الحي ألعب معهم باحتراس، الاحتراس هو طبيعتي ولا أصل إلى تطابق مع أحد أو شيء. في رأسي باستمرار هذا الفرق غير المرئي الذي يجعلني جانباً.
بقي لي أيضاً، ما حسبته، تفوقي بالفكر والخيال وبعدها بالقراءة والكلام. هنا لا مجال للمقارنة. لم أحتج حتى إلى إظهار قدرتي. تفوقي على أصحابي ثم على أساتذتي كان واضحاً، تقدمت فيه بسرعة شيطانية. كنت من هذه الناحية طفلاً متعملقاً، أما هم فلا أعرف كيف كانوا يرونني. استضعفوني بالتأكيد وكنت أرتجف منهم وأحمي نفسي بجواب سديد، أو استعطاف خفي، ليجعلني أقواهم تحت حمايته.
المدينة لا أعرف إذا كنت الوحيد الذي لم يفكر فيها. كنا جميعاً نعيش في الحد الأدنى. بيوت بلا فن، حياة بلا أسلوب. جدران عارية تقريباً وطوابق مرتجلة ومبنية كما اتفق، شوراع تتوسطها سواق ضيقة تندفق فيها مياه الغسيل والجلي، أقذار في الطريق وحيوانات شاردة وأحياناً نافقة. هل كان هذا يكفي لرؤية المدينة؟ كان هناك أيضاً البحر الذي جرينا على صخوره بدون أن نشعر أن هذا يغير في الإطار. الحرش الذي طالما هربنا من الصف إليه بدون أن نلاحظ أنه يضيف شيئاً. كل هذا يختلط بالإسمنت العاري والشوارع الجرداء وعظام الحيوانات. كانت المدينة تخرج من أحيائها القديمة إلى الخلاء الرملي حيث ترتجل مباني وشوارع، جميعها طبق الحاجات الأولى، إذ ليس بعد الرقاد والطعام والتسوق أي مطلب. حياة في الحد الأدنى أو مجرد بقاء على قيد الحياة.
لا أريد أن أسترسل أكثر، فلست في الحقيقة مقتنعاً بأن هذا هو السبب في لامبالاتنا. ما دمنا لا نرى ولا نلاحظ فلن يكون هذا سبباً. كنا قبل هذه الأشياء، وأنشئت على قدر حاجاتنا وخيالنا. لم نطلب شيئاً أكثر مما هو ضروري ولم نهتم بغير ذلك. لقد صنعنا أشياء طبق احتياجاتنا ولم نصنع شيئاً لخيالنا.
هل كنا فعلاً غير منتبهين. أم أن هذه حالي وحدها. أنا لم أفكر في الأمر. لم استبشع جداراً منخوراً، ولم اشمئز من رائحة رؤوس السردين المكومة تحت الحيطان، ولم أنزعج من منظر الصابون الذي يكرج في السواقي، ولا من الطفلة التي تقف فيها وتسكب منها على رأسها. لم أكره الأزقة المظلمة، ولم أنشرح للبحر الهائج تحت الطريق. حتى حين حاولت، بتأثير الأدب، أن أصرف انتباهاً خاصاً للبحر لم أداوم على ذلك وسلوته بسرعة. لم أكن أرى. في الحقيقة لم أكن أشعر. لم أظن مرة أن علي أن أحب أو أكره ما يحيط بي. كنت ألبسه بدون أن أعرف وبدون أن أنتبه. كنّا واحداً إلى الدرجة التي لا يمكنني فيها أن أراه. كان موجوداً أمامي ولا يحتاج إلى أن أنظر إليه، لا يسأل عن رأيي فيه. وأنا كنت أدور في هذا المكان بدون أن أحس به، أعبره بقدمي فقط ولا أعيره أي شيء آخر. كانت في الغالب غفلة شاملة. تجرنا أقدامنا إلى صخور البحر أو المقبرة. لا فرق، المهم أن نجد مستراحاً. في بيوتنا لا يهم إلا أن نجد مأوى. هذه أشياء ننساها بمجرد أن ننال ما نريده منها.
كنا جميعاً غفلاً ووسط إغفال شامل. كنا في آخر العالم، وجودنا لا يساوي كثيراً، ليس لدينا الكثير الذي يستحق أن نتذكره، ليس هناك ما يستحق أن نلاحظه. بالقياس إلى أفكاري السيالة والهائجة دائماً لم يكن هذا المكان يكفيني. لم أكن أفكر في هذا المكان ولا لهذا المكان. كنت كمن يعيش في سحابة ولا أتذكر الآن حياتي إلا على أنها نوع من الغيبوبة. لم أكن واعياً لغفلتي وغير دار بأن حياتي الخصبة في رأسي وصلتي بالواقع شبه آلية. أعرفه فقط بقدمي ومعدتي بدون أن أنتبه إلى أن ما يبعدني عن الجنون هو هذه الآلية. هي وحدها الخيط الضغيف الذي يصلني بالعالم.
كنت بريّاً إلى حد بعيد. جاهلاً تقريباً بكل اللياقات. حين لاحظ أبي أنني أجيب بكلمة «عالْ» على كل سؤال اجتماعي، علمني بضع أجوبة متمايزة: «بنظرك على كيفك، إلى من هو أشوق على مشتاقين». كنت أدلّي رجلي على جانب الكنبة في حضور أي كان بدون ان يخطر لي أني أسيئ التصرف. أقول للشيخ عبد الوهاب الذي يحمل نفسه من بيته بأن والدي نائم، بدون أن أعرف أن عليّ أن أفتح له الصالون وأنادي والدي. كنت بريّاً تماماً واحتجت إلى وقت طويل لكي أتدرب على اللياقات الاجتماعية. ربما كانت نسياناتي المتكررة وسهوي من آثار هذه البرية، إذ يفوتني أحياناً كل ما هو اجتماعي.
لا أعرف متى بدأت هذا التدريب. أخشى أن أقول إني بعد وفاة أبي فهمت أنني منذ الآن مسؤول وعليّ أن أعرف كيف أتصرف. كأنما كان أبي يقوم بذلك عني. كأني بعد وفاته انكشفت للجميع وبات عليّ أن أفعل الأشياء بنفسي، أو لعلها رغبتي في أن أحل محل أبي وأتصرف مكانه. كان عليّ أن أجتهد لأّحصّل ذلك وأبقى غير واثق مما حصّلته. أبالغ أحياناً لمعرفتي أنه لن يغدو أبداً طبيعة لي، وأني كل مرة سأفوّت شيئاً ما. أنجح أو لا أنجح ولكني أظل لدى أي طارئ قابلاً للارتباك. لا أملك جواباً حاضراً في كثير من الأمور وكثيراً ما أغمغم بدلا من أن أجيب. لا أملك بالتأكيد بديهة من أي نوع، وأكتفي بأن أستعيد ما تعلمته، باقيا باستمرار تحت خوف المفاجأة.
أفكر الآن أن ما فعلته، وإن بدا ناقصاً، هو تدريب شاق وتطبّع تدريجي، وأن هذا الدأب أنقذني من الجنون. لربما أنقذتني منه ايضاً غيبتي الطويلة. مع ذلك أتساءل إذا لم أكن حقاً مجنوناً. لا زلت أنكشف ولا أستطيع أن استمر في تظاهري. لكن هذا لا يهم، ما يهم هو أن مجهودي الإرادي صار حقيقياً. تأخرت لكني وصلت، تأخرت في الحب وتأخرت في العمل وتأخرت في الكتابة. تأخرت عن الحياة، تأخرت ولا أزال لكني عوضت ذلك بالصبر. معه نلت كفايتي من الحب والعمل وكتبت كثيراً بالنسبة لواحد في سهوي. أبدو قابلاً للنكوص لكني أبقى وأنتظر في النهاية أكثر مما ينتظر الباقون. يقال إني أحب بشيء من الآلية وأجامع بقدر من السهو وأعمل كأني لا أعمل. لا يفهم كثيرون كيف أستطيع أن أجمع نفسي لأفعل أي شيء، وكيف يمكنني أن أجد نسقاً ما في بحر الفوضى. أنا نفسي لا أفهم كيف يمكنني أن أنتظر أو أصبر بهذا المقدار. أظنّني أفوز لأني أؤجل مرة بعد مرة، وكل ثانية تقريباً، قرار انسحابي. أظنّني أصبر وأثابر لأنني لا أجرؤ على الهجوم وأؤثر أن أبقى خلف دفاعاتي. لكن المهم هو أن الصبر والإنتظار يأتيانني بسهولة، فلست بالرجل الذي يتحمل الصعب. إنها السهولة نفسها التي كنت بها أركّب افكاري وأتركها تحملني لم تمنعني أيضاً من أن الطى في مكاني واركز وأنتظر. أن أمضي ساعات في انتظار جملة بدون أن أتزحزح. لا زلت باستمرار أزور الواقع، وأحتاج كل مرة أفعل بها ذلك إلى تحضير وإلى تهيئة. لا أصل إلى أن التحم به عفواً. ثمة باستمرار فارق يقتضي وقتاً وتحمية لتخطّيه. لكن هذا يساعدني على أن أعاود البدء دائماً. أقول أحياناً إني محظوظ وإني نجوت بمعجزة تقريباً. نجحت في التظاهر حتى بدوت أحياناً أكثر من أَصلي. محظوظ لأني أُنقذت من الجنون في اللحظة الأخيرة. لكن هذا تمّ بسهولة وكأنه بمعجزة. تمّ ساعةَ أردته وكأنه حصل بسحر ما. لولا هذه السهولة لتحطمتُ، إذ ليس لي القوة على أن أعاود المحاولة، ولا طاقة لي على أي تصحيح أو مراجعة. محظوظ لأني لا أزال أسوح بين عالمين متصلين بحبل أو خيط، عالم العائدين من الجنون وعالم الواقع المستأنَف دائماً. لا زلت هنا لكنّ الميزان اختلف. العيش في الأفكار الآن يعذب كثيراً، فلم تعد هذه نزهة في السماء. إنها في الغالب لقاء مع أشباح، فثمة دائماً مخاوف وثقوب سوداء. لذا يتكرر هربي من الإثنين فهنا حيث أعمل كآلة أجد شيئاً من السلوان.