حسن داوود

في سنة 1973 ذهبت لزيارة عباس بيضون في صور. كان الوقت ليلا حين وصلت إلى بيته القديم، ذاك الذي أمكن لي أن أتعرّفه أكثر بعد ذلك، مضيفا إلى جواره البحريّ، أو الصخريّ، مشاهد شبه حقيقيّة وشبه أسطوريّة أوْجَدتها قصيدة "صور". كان البيت قليل الأثاث، وقد زادت من وحشتي فيه الإنارة الخفيفة وانفراده في ذلك المحيط الخالي، كما أذكر أيضا. لم أكن أعرف أنّ عباس يحمل كتابته الشعر على محمل الجدّ. تلك الجملة التي ردّدها عنه الصديق حمزة عبود "وفي التحليل الأخير لست سوى تصميم لإنسان يُدخّن" كان يمكن لها أن تصدر عن الذكاء وحده. لكنّ عباس، في تلك الليلة، أحبّ أن يخصّني بتعريفي إلى واحدة من مواهبه الكثيرة. ذلك الكيس الورقي الأسمر، ذاك الذي أسميته في ما بعد كيس الشعر، كان ممتلئا بالأوراق التي أخرجها عبّاس، دفعة واحدة، مختلطة معا. ما قرأه لي في تلك الليلة قصائد ومقطوعات كان كتبها في رثاء أبيه. لم يكن قد مضى وقت كثير على تلك الحادثة القاتلة إذ أنني، فيما رحت أصغي، تبدّى لي الأب حاضرا هناك في مكان قرب الباب، موجودا، في معطفه الذي يرتديه الرجل الفقير المستعطي الذي أعطي الثياب بعد رحيل صاحبها. كان يمكن لي، فيما أنا أستمع، أن أرى بعينيّ، بل أن ألمس بيدي، قماش المعطف، هناك عند كتفه، حيث ما زالت باقية تلك النثرات من قشرة الرأس.

لم يقع ما سمعته في تلك الليلة الموقع ذاته الذي للشعر، أقصد أنّه لم يأت بتلك "البهجة" أو المسرّة التي يتداولها من هم في حضرة الشعر. ذاك أنّ ما سمعته كان رثاء حقيقيّا، منقولا إلى الشعر، وليس "فنّا" من فنونه على ما يصنّف النقّاد. رثاء حقيقيّا وليس رثاء أدبيّا بالمعنى الذي أوضحه مرّة أمبرتو إيكو حين كتب أنّ البشر باتوا يقلّدون الأدب، أو يتّبعونه، في مشاعرهم.

آنذاك، في تلك الليلة من 1973، نقل لي عباس عدواه، ليس تجاه أبيه، بل تجاه نوع ألمه الذي بدوت كأنّي تعلّمته، وأحللته فيّ، قابلا للتمدّد، مثل نظريّة فذّة، أو مثل جرثومة خصبة، معدية هي أيضا.

***

أزعم أنّني أعرف كيف هو ألمه. كما أنّني أعرف كيف يخبّئه أو، أحيانا، كيف يعطّله. في مرّة يفعل ذلك بالضحك، أي بقلب الحياة إلى الجهة التي تبدو فيها مضحكةً. لكن دائما كان عليه أن يبذل الكثير إرضاء للضحك كي يبقى، أن يجعل من نفسه موضوعا له مثلا. أن ينكّت على ما يفعله وعلى عجزه إزاء ما لا يقدر على فعله. وكان، في ذلك أيضا، يطلع الأفكار الصعبة من مخابئها. في أحيان كنت أردّ ذلك إلى شدّة مراقبته لنفسه، إذ يبدو لي كأنّه شخصان، واحد يطلق لنفسه السجيّة، وآخر يظلّ ملازمه ليستخلص أفكارا مما يعيشه ذاك الأوّل. وفي حسباني أنّ الشخص المراقِب ذاك يترك الحبل على غاربه لرفيقه أحيانا، ليحدّق فيه وهو يسقط في العثرات ويرتبك أمام تلك الأشياء الصغيرة التي من قبيلها مثلا أن تحوّل يده الساهية جلسة الأصدقاء إلى ما يراه هو كارثة، وذلك بعد أن انزاحت نحو الكوب وأسقطت النبيذ الذي فيه على شرشف الطاولة وعلى واحدة من النساء الجالسات حول الطاولة. "أظلّ حاملا سلّة العثرات" يقول، أو يقول أيضا، قاصدا شخصه الذي يراقبه، الشخص المفكّر الكاتب، "لم أعد بستانيّ حياتي".




      © 2014  كلمن. جميع الحقوق محفوظة.
نشرة كلمن

نسيت كلمة المرور

أدخل عنوان بريدك الالكتروني:
     
سيتم إرسال كلمة سر جديدة الى صندوق بريدك.
ملفات تعريف الارتباط

لاستخدام سلة الشراء ومكتبة كلمن، يجب تشغيل ملفات تعريف الارتباط (cookies) في المتصفّح الذي تستخدمه‫.‬ ان كنت لا تعلم ما هي ملفات تعريف الارتباط (cookies)، الرجاء مراجعة قسم المساعدة في متصفّحك‫.‬