في عهد الشباب المبكر لم يكن هناك لوتو. كان اليانصيب وحده ما نعرفه أوراقاً ملوّنة تباع في شوارعنا، لكنّني كنت واحداً من أولئك الكثيرين الذين يجهرون بكرههم اليانصيب. أمّا نعته بـ ”الوطنيّ“ فبدا لنا، نحن الذين يكرهونه، برهاناً آخر على فقر الوطنيّة اللبنانيّة وخوائها وعلى طواعيّتها لكلّ استخدام وضيع. ذاك أنّ الأرزة وقلعة بعلبك وسواهما من رموز توصف بالقداسة إنّما تُسلّع على الطرقات بما يؤكّد قولنا إنّ البورجوازيّة لا تفهم الوطنيّة إلاّ كسباً وغنماً. وكنت حينذاك أردّد، في هجاء اليانصيب، حججاً لا أذكرها اليوم بالتفصيل، لكنّها تشبه القول إنّه يضع الصدفة محلّ القانون، كما يُحلّ الوهم محلّ الواقع، جاعلاً مَن يتعاطاه يتشاطر بالخلاص الفرديّ على قوانين التاريخ الصارمة التي أُلمّ بها إلمام الخبراء المحلّفين. وربّما كنت أقول أيضاً إنّ اليانصيب مشاركة في نهب فائض القيمة الاجتماعيّ، والمنهوبون بالطبع الكادحون.
وقد يكون في هذه الأحكام بعض الصحّة إلاّ أنّها على العموم ثقيلة الدم، عديمة الانتباه إلى سيكولوجيا الأفراد وإلى رغباتهم الملتوية والمداورة.
وأشدّ ما كان يفوت تحليلاتنا العظمى أنّ ”الطبقة العاملة“، التي نزعم تمثيلها، أكثر الفئات انجذاباً إلى تخييل حياتها، وإلى إحلال الوهم محلّ واقع مُزرٍ. صحيح أنّنا كنّا نحضّها على ألاّ تفعل، ونسألها أن تقارع الواقع بواقع بديل، لا بتعويض وهميّ عنه. لكنّ الصحيح أيضاً أنّنا كنّا بذلك نطالبها بصبر أيّوب وبزهد المتصوّفين العتاة في وقت واحد، بحيث تتخفّف من كلّ بحث عن عزاء، ولو مُتوهَّم، على مدى انتظارها قيام الثورة. فكيف وأنّ نضجين لا بدّ أن يتحقّقا قبل ذلك، نضج العامل الموضوعيّ ونضج العامل الذاتيّ، كما ينبغي أن يلتقي النضجان في مكان ما فلا يضلّ أحدهما طريق الآخر.
يتعذّر وجود المجتمعات بلا حركاتِ تمرّدفارس ساسين