محمد سويد


[1]

وَرَدَ في «تاريخِ جبلِ عامل» لمحمّد جابر آل صفا أن «السفائن» كُتبٌ خطيّـةٌ، اختلَطَ فيها الأدبُ والتاريخُ، وخلتْ من كلّ ترتيب وتنسيق، ولا يُعرفُ لها أولٌ من آخر.

«سحر الغائب» فيلمٌ مستوحى من سفائن متخيّـلة لمجموعة من الكـُـتّـاب، تتضمّن نذراً من مروياتهم وأهواء عيشهم وأهواله، أمضوا عقوداً في تدوينها، وأُعيد صوغها والربط في ما بينها بحيث تبدو وكأنّها من تأليفِ كاتبٍ واحدٍ أملاً في تيسير فِهمِها وتخفيفاً من تقادُمِ الزمن عليها بكُرورِ الأيام.

(1)

أمّا وقد بَلَغْتُ مُنتصفَ عِقْديَ الثامن، فلا يسعُني غيرَ جمعِ شَتَاتِ أعمارٍ عشتُها منتحلاً أدواراً تمنيّتُ أن أكونَها... أو كُدتُ.

ما أنا إلاّ رجلٌ استَبْقَتْهُ الحياةُ من دون إرادتِه؛ بدأتْ قصّتُهُ في مكانٍ ما من هذه المدينة.

(2)

بخلاف المُعْجَبينَ بستينات القرنِ الماضي، أستلطفُ السبعينات. منذُ مدّةٍ، قلّبتُ صورَها. لفَتَني المطران كبوجي مواجِهاً الإسرائيليين، والمطران مكاريوس مسترجعاً سلطته الرئاسيّة في قبرص ممّنْ حاولوا إطاحتَهُ بانقلابٍ عسكري، والإمام موسى الصدر معتلياً المنابرَ في مهرجاناتٍ خطابيةٍ حاشدةٍ في لبنان. ماذا يفعل رجالُ الدين وسطَ كلِّ هذا الجاز؟

(3)

تخطُرُ إيرانُ في بالي طيفاً من فيلمٍ ناطقٍ الفارسيّةَ ويُعيدُني العراقُ إلى أمسياتٍ أمضاها أبي صُحْبَةَ الراديو وصوتِ ناظم الغزالي.

(4)

كانت جدّتي آخِرَ مَنْ فتنَني بالجنوب. لا أعرفُ مِنْ أين سمِعَت أنه سُمّيَ جبلُ عامل وقبلاً بلادُ بشارة، ولا من شَرَحَ لها أوجُهَ الاختلافِ بين فِرَقِ الشيعّة ومذاهبِهِم.

(5)

«كلُّنا للوطن للعُلى للعَلَم».

لم أُحْسِنْ غناءَ النشيدِ الوطنيِّ اللبنانيّ إلاّ بهذه الدَندَنَة. ذاكرتي معلقّةٌ، إلى حدٍّ كبيرٍ، على الانتدابِ الفرنسي والحربِ العالميّةِ الثانية. نقلاً عن شريطٍ وثائقيّ فرنسيّ قصيرٍ قدَّمتْهُ سينما «التياترو الكبير»، حَفِظْتُ تاريخَ لبنانَ ونشوءَ دولتِه واستقلالِهِ في أقلِّ من دقيقةٍ استغرقَهَا العرضُ على الشاشة.

(6)

كنّا قلّةً وسط أقليات تؤنَسُ لوحدتِها قَدْرَ ما تخشاها. الفَرْدُ فيها مشهورٌ بعائلته وطائفتِه وأصلِه عَوَضَ اسمِه. من جيرانِنَا كان يواكيم الأورثوذكسي ونعيم الماروني وحبيب المغربي و«زيتونة» اليهودي.

(7)

في رُتبَةِ الشهادةِ توالَت الأسماءُ، من إعدامِ الشهيدِ الأولِ باني مدرسةِ جزين إلى قتلِ الشهيد الثاني أو «شيخُ الطائفةِ وفتاها، ومبدأُ الفضائل ومنتهاها»، على قولِ العلاّمةِ ابنِ العودي.

إلى الشهيدِ الأوّل محمّد بن مكّي بن محمّد بن حامد الجزيني المُلقّب شمس الدين، ينتهي نسبُ الشيخ محمد مهدي شمس الدين. يكادُ تاريخُ جبل عامل أن يكونَ حكايةَ أنسابٍ وذوي قُربى.

(8)

على لسانِ جدّتي كرّتْ قصصُ المشايخِ والعَماماتِ السود. حَكَتْ أنها سليلةُ عائلةٍ من السيّاد في قريةِ أنصار وأنّ أباها نسيبُ عالِمٍ مجتهِدٍ ذاعَ صيتُهُ في بلادِ الشام.

(9)

حَمَلْتُ مِنْ مُراهَقَتي تعلّقاً بأفلامٍ تجاوَزَها الزمنُ. أَحَبُّ ما عندي مشهدُ الغروبِ والبحرِ خلفَ قُبْلةٍ يتبادلُها عاشقان. حينَ أنظُرُ إلى المُدُنِ الهامِدةِ من ضيقِ تنفُّسِها وتكدُّسِ المباني في قلبِها، أُطرَبُ لقُدرتي على تخيُّلِها سُهولاً مُتمايلةً كالأغاني في أشرطةِ رُعاةِ البَقَر.

(10)

عندَ وضعِ الحربِ العالميّةِ الثانية أوزارَها، كنتُ طفلاً في العاشرة. إنحاز مسلمو حارتِنا إلى هتلر، سمّوه «أبو علي». بعد خلعِ الملك فاروق، حملوا لواءَ جمال عبد الناصر، هلّلوا لحربِه في السويس، سمّوه «أبو سمرة».

(11)

عام 1958، دارت رُحى حربٍ أهليةٍ خاطفة. انتشرَ مسلحّو حزبِ النجّادة في المناطقِ الإسلامية. نزِلَتْ قوّاتُ المارينز على شاطئ الرملةِ البيضاء. تواترتِ الأحداث. راحَ كميل شمعون، جاءَ فؤاد شهاب. بدأ عهدُ العسكرِ والمكتبِ الثاني. من إيران، أطلّ شابٌّ طويلٌ معمّم. كان اسمُه، مع حِفْظِ الألقاب، موسى، السيّد موسى.

(12)

أَقَامَ السيّد موسى في جوارِنا. أحبّ بيروت وأكثر منها صور وكيفون صيفاً. تنقّل بين بيوتٍ عدّة وفي طول البلاد وعرضها. لم يُعرَفْ مجيئهُ من رُوَاحِه ولا ظُهورُهُ من غيابه.

(13)

سافرتُ خارجَ لبنانَ أكثر مما تنقّلتُ في أرجائِه. اقتصرتْ حركتي البطيئةُ على المشي وارتيادِ أماكِنِ الترفيهِ في وسطِ بيروتَ وأحيائِها. لم تزِدْ معرفتي بالمناطقِ، آنذاكَ، عن مناظرِها العابرةِ في أشرطةٍ إخباريةٍ سبقتْ عروضَ الأفلامِ في صالاتِ السينما.

(14)

خَلَفَ شارل حلو فؤاد شهاب وخَلَّفَ عهدُهُ نُذُرَ الأزماتِ والحروبِ الآتية. أفْلسَ بنك إنترا عام 1966 وانتهت أسطورةُ مؤسسه الفلسطيني يوسف بيدس نهايةً مأسويّة، دُمِّرَ جزءٌ مِنْ أُسطولِ الخطوطِ الجويّةِ اللبنانيّة بغارةٍ إسرائيليّة في 28 كانون الأول 1968 رداً على عمليّةِ خطف طائرةٍ إسرائيليّة نفَّذَتْها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في مطارِ أثينا، وفي 3 تشرين الثاني 1969 أُبْرِمَ اتفاقُ القاهرة وأُطلِقَتْ يدُ المقاومةِ الفِلسطينيّة في الجنوب. تفشّى السلاح. بدأت المواجهات مع الجيش والميليشيات المسيحية.

(15)

Welcome to Fatah Land!

ذاتَ ليلةٍ، وصلتْ طَلائِعُ المُصابينَ والنازحينَ من أحداثِ أيلول 1970 في الأردن. أخيراً، حلَّتِ الثورَةُ في ربوعِنا. لم نعُد في حاجةٍ إلى تسقُّطِ أخبارِها من الإذاعات. صُرْنَا خَبَرَها. صارَ أبو عمّار وأبو جهاد منّا وفينا وبيننا.

(16)

في الثاني من أيّار 1973 قصفَ طيرانُ الجيشِ اللبناني مخيّماتِ الفلسطينيينَ في بيروت. قبلها بقليلٍ، في العاشر من نيسان 1973، اغتالَ الكوماندوس الإسرائيلي ثلاثةَ قادةٍ فلسطينيين: كمال ناصر، كمال عدوان ومحمد يوسف النجار. ولمّا قامَتْ حربُ تشرين لم أعلمْ ماذا كانت نهايتُها. أعلمُ أن التشكُّكَ في الانتصاراتِ بات غيرَ مسموحٍ به منذ ذلك الحين.

(17)

بدت حياتُنا محشورةً في زاويةٍ ما. نجْفَلُ لمجرّدِ سماعِنا بخبرٍ مؤسف. اختلطَ العنفُ والثورةُ، وُلِدَ الإرهاب. تلاحقت أخبارُ منظمةِ أيلول الأسود وكارلوس والجيشِ الأحمر الياباني وبادر - ماينهوف والألويةِ الحمراء.

في تشرين الثاني 1973، وتيمُّناً بجماعة «توباماروس» وحروبِ الُمدُن في أميركا اللاتينية، اقتحمَ الشابُ الجنوبيّ علي شعيب مكاتبَ بنك أوف أميركا في شارعِ المصارفِ المُتفرِّعِ من ساحةِ رياض الصلح في وَسَطِ بيروت. كان ضُمْنَ مجموعةٍ مسلّحةٍ سمّت نفسَها «منظمة الاشتراكيين الثوريين». طالب المسلحون بالإفراج عن رفاقهم المعتقلين. فور ذيوعِ الخبرِ، خرجت تظاهراتٌ مؤيّدةٌ لهم، وهم في الأثناءِ صادروا عُمُلاتٍ نقديّةٍ ورموها للمتظاهرين. حوصروا، انتهت العمليةُ بمداهمةٍ أفضت إلى مصرَعِ علي شعيب. لم يُخلّدْ علي شعيب بصورةٍ أو بملصق. كُتِبَتْ فيه قصيدةٌ أضحت أغنيةً ونداءً، «يا علي».

(18)

تَرَكَ أبي الجنوبَ مُبكِّراً. استقرَّ في العاصمةِ وعَمِلَ في مهنٍ عدّة. تغيّر سِجِّلُ نفوسِنا. في المدينةِ، اكتشفتُ نظامَ الأشياء ومُتعَةَ عِصْيَانِه. أذكُرُ أنّ أوّلَ خروجٍ لي على القانونِ كان تسلّقَ حافلاتِ الترامواي والقفزَ فوق أسوارِ الجامعةِ الأميركيّةِ للتنزّهِ في حَرَمِها والتفرّجِ على مباريَاتِ كرةِ القدم في ملاعبِها.

(19)

الشيخ نجيب زهر الدين، أشهرُ منشدي عاشوراء ورُواتِها في الكليّةِ العاملية. في جوار الكليّة، اختار أبي السكنَ ولم ينقطعْ عن حضورِ مجالسِ عاشوراء إلاّ بعد وفاة الشيخ زهر الدين. كان لهذا المنشد، وعلى طريقتِهِ، دفءَ الصوتِ وحرارةَ الدمعِ. أعياني البحثُ عن تسجيلٍ له بين أشرطةِ فيديو محفوظة في مكتبةِ العاملية. عثرتُ على أكثرِ من صوتٍ في غيْرِ حفلٍ وصورة. واضحٌ أن الشيخ نجيب توارى في دمْعِه.

(20)

تزامنتْ ذكرى عاشوراء والإعلانُ عن ميثاقِ حركةِ المحرومينَ بتوقيع مئةٍ وثمانينَ مثقّفاً من طوائف عدة في 20 كانون الثاني 1975. في 18 شباط، ألقى السيّدُ موسى خُطبةً غيرَ مسبوقةٍ في كنيسةِ الكبوشية. كان يوماً من أيامِ الصوْم . لدى خروجِهِ من الكنيسةِ، فات السيّدُ أنه راحَ يسيرُ في طريقِ آلامِه وأن عيدَ الفُصْحِ عامَذَاكَ لن يعودَ كما كان.

(21)

عن جدّتي، ورِثْتُ قولَها، «كلُّ شيءٍ يبدأ صغيراً ويكبر إلاّ المصيبةُ تبدأ كبيرةً ثمّ تصغر». حَسِبْتُ أن مثلَ جدّتي ينطبقُ على الحرب. خابَ ظنّي. بعدَ خمسةٍ وثلاثين عاماً، نقلتُ المثلَ إلى أبنائي ناصحاً لهم بحفْظِه، ولمّا سألوني عن الحربِ، خابَ ظنّي مجدّداً. لم أتذكّر منها سوى الروايةِ الشائعةِ عن مرورِ حافلةٍ تُقِلُّ فلسطينيينَ في منطقةِ عينِ الرمانة وإقدامِ مسلّحينَ كتائبيين على إطلاقِ النارِ على ركّابِها. حَصَلَ ذلك في الثالثِ عشر من نيسان 1975. كان يومَ أحدٍ، وكنتُ في حمايةِ سلوى، في سينما اسمُها سلوى.

(22)

لا شيء يُفيدُ عن وجودِ أحمد حمدان غيرَ ملصَقِ نعيِه شهيد حزبِ الوطنيين الأحرار. في نبأ نعيِهِ غَرَابةُ حربٍ خاضها مسلمٌ في ميليشيا مسيحيّةٍ وأسفَرَتْ عن قتلِ أبناءِ طائفتِهِ وتهجيرهِم من مُخيّمٍ فِلسطينيٍّ وجوارِهِ إلى ضواحٍ ومخيّماتٍ جديدة.

(23)

بذبحةٍ قلبيةٍ، أسلَمَ والدي الروحَ عن عُمرٍ ناهزَ الثمانينَ، عامَ ألفٍ وتسعمئةٍ وثمانين. لا مُصادفةَ في ذلك. يجوزُ اختصارُ النهايةَ برقمٍ كانَ الثمانينَ في حالِ أبي وسَنَةِ رحيلِه. مِسكين. لم يترُكْ وصيّةً في شأنِ مَثواهِ الأخير. أغلبُ الظنّ أنّه استبعدَ قريتَنا الحدوديةَ من أمنياتِه. منذُ الاجتياحِ الإسرائيليّ، ربيعَ 1978، فَقَدْنَا بيتَنَا هُناكَ مرّةً واحدةً وإلى الأبد.

(24)

تفيضُ قصّةُ السيِّد موسى تعقيداً. في شجرةِ عائلتِه، تنأى به الجذورُ إلى قريةِ شحور. ومِنْ قَرابَتِهِ للإمامين عبد الحسين شرف الدين في لبنان والخميني في إيران والسيّد محمّد باقر الصدر، زوجِ أُختِه وأبرزِ مؤسسي حزب الدعوة في العراق، تداخَلَت سُبُلُ الحياةِ والسياسةِ، سَلَكَ السيّدُ مسارَهُ ومصيرَهُ معاً.

(25)

المصارِعُ الإيراني غلام رضا تختي، أسطورةُ عصرِه. في مُـقتَبَلِ عُمرِه وقِمَّةِ عطائِه، مات. زَعَمَتْ الُسلُطاتُ الإيرانيّةُ أنه انتحر. حَمَّلَ محبّوه نظامَ الشاه مسؤوليةَ قتلِهِ عقاباً على مواقفِهِ السياسيّة. ما زال حبيبَ الملايين في إيران. كان قُدوةً لمصطفى شمران، صديقِ السيّد موسى الصدر. دكتورٌ ومهندسُ طاقة درسَ في الولاياتِ المتحدةِ الأميركية وجاء بطلبٍ من السيّد موسى إلى لبنان.

(26)

اختفى الإمامُ ورفيقاهُ الشيخ محمد يعقوب والصحافيّ عباس بدر الدين في ليبيا. ظَهَرَ إمامٌ آخرٌ في إيران، الخميني.

(27)

سَقَطَ الشاه، قَامَتْ الجمهوريّةُ الإسلاميّةُ. على يسارِ الإمامِ الخُميني وَقَفَ مهدي بازركان متحدّثاً، وعلى يمينِ ياسر عرفات أطلَّ ابرهيم يزدي محّيياً جماهيرَ الثورة. مثل السيّد موسى الصدر، التقى صادق قطب زادة الخميني في النجف وكان ظلَّه والناطقَ باسمِهِ والممثِّلَ الشخصيَّ لهُ في منفاهِ الفرنسي. عُيِّنَ بازركان رئيساً لحكومةٍ انتقاليّةٍ تعاقب فيها يزدي وقُطُب زادة على تولّي وزارةِ خارجيّتِها. كان السيّد موسى على معرِفَةٍ بهؤلاءِ الثلاثة. معاً، التقوا، وعلى خلفيّةٍ دستوريّةٍ، في «حركة تحرير إيران».

(28)

في هُدوءٍ، انسحبَ مهدي بازركان وابرهيم يزدي. وحيداً، وقفَ صادق قُطُب زادة. وُجِّهت إليه تُهمةُ التآمرِ على النظامِ الإسلامي. في تشرين الثاني 1982، اعتُقِلَ وأُعْدِمَ شنقاً.

(29)

عَادَ مصطفى شمران إلى إيران، رُقِّيَ وزيراً للدفاع. على جبهةِ الحرب مع العراق، قُتِل. فاتَ السيّد موسى أن يشهدَ مصائرَ الصُحبةِ ومآلَ الأحوال. تغيّرت قيادة حركة «أمل». صار التأريخ لها أشبَهَ بصفحاتٍ ممزّقةٍ من كتابٍ غيرِ مكتملٍ عن حروبٍ غيرِ مُنتهية.

(30)

«البربور» شارعٌ في غربِ بيروت لا يَقَعُ بعيداً مِنْ مِنطقَةِ العامليّة ومقرِّ إقامةِ الإمام موسى الصدر سابقاً في رأس النبع. على غِرارِ العامليّة، تحوّلَ «البربور» معلماً شيعيّاً. كانَ مُمْكِناً ألاّ يكتسِبَ هَذهِ الشُهرةَ لولا ارتباطهِ باسمِ نبيه برّي، أو، اختصاراً «الأستاذ». يكفي لفظُ اللقَبِ لمعرفةِ صاحِبِه. في لبنان تختفي الأسماءُ وتبقى الألقاب.

(31)

اجتاحت إسرائيلُ لبنان، خَرَجَ الفلسطينيون، انتُخبَ بشير الجميّل رئيساً، اغتيل، مذبحةٌ في مخيّمي صبرا وشاتيلا، خَلَفَ أمين الجميل أخاه، قوّاتٌ متعددةُ الجنسيات، عمليّاتٌ انتحاريّة، مارينز وفرنسيّون يسقطون بالمئات، يغادرون بالآلاف.

(32)

6 شباط 1984. نزِلَ مقاتلو حركة «أمل» و«الحزبِ التقدّمي الاشتراكي» إلى الشارع. اشتبكوا مع الجيشِ اللبناني وهزموه. بدت حرْباً في الخفاءِ، أقربَ شكلاً إلى حفلةٍ تنكُريّةٍ في وَضَحِ النَهَار.

(33)

ذات يومٍ حارّ، حطّ ديميس روسوس في مطارِ بيروتَ الدوليّ. جاء من أثينا، ليس للغناءِ بل للنزولِ رهينةً في ضيافة خاطفيه.

(34)

من بلدة الخيام، خرجَ كاتبٌ مغمورٌ نشرَ مقالاتٍ في صُحُفٍ ومجلات، وقّعها باسمٍ مستعارٍ «السيِّد ميم». لم يختَرْ هذا الاسمَ سيراً على تقاليد المشاهيرِ وإنمّا خجلاً من إخفاقه في أعمالِه. غداةَ اشتباكاتِ الجيش اللبناني مع الفلسطينيين في أيّار 1973، انضمَّ السيِّد ميم إلى حركة «فتح». كان أبو عمار مِثالَهُ الأعلى، ثابرَ على مُناداتِه «القائد العام».

(35)

في مقالٍ نشرهُ أخيراً، كتبَ السيِّد ميم قال،

«تعلّمتُ فكَّ السلاحِ وتركيبَهُ في مخيّمِ شاتيلا. تحسّبتُ لكل شيءٍ سوى معاودةِ التعرُّف إلى أصحابٍ فقدتُ الاتصال بهم منذ وقتٍ طويل وأرى أسماءَهم الآن محفورةً على شاهدةٍ واحدةٍ في مقبرةٍ جماعيّةٍ ضمّتهم مع ضحايا حصارِ حركةِ «أمل» للمُخيَّم».

(36)

من فرط الأحداثِ وتواتُرِها يبدو جَمْعُ صورِهَا في تسلسلِها الزمنيِّ وإيقاعِها السريعِ أقربَ إلى فيديو كليب منه إلى شريطٍ وثائقيٍّ توالتْ فيه حروبُ الأهل والثأرِ والخطف.

(37)

8 آذار 2005، مئاتُ الآلافِ يتجمعّون في ساحةِ رياض الصلح، ليس تحيّةً إلى علي شعيب وذكرى هجومِهِ على بنك أوف أميركا، بل وفاءً لسوريا. إنتهى عهدُ الوفاء للشخص والتاريخ. صارَ الوفاءُ للدول، أو، بصراحةٍ، صارَ علي شعيب نسياً منسيّاً.

(38)

أتذكّرُ أيّامَ التظاهراتِ وفي قلبي حنينٌ إلى البحرِ والنساءِ والتنانيرِ القصيرة ومقاهي البلد ومطاعمِهِ الشعبيّةِ وأفلامِهِ ومسرحيّاتِ شوشو. في شيخوختي، يُشغلُني جمعُ الصورِ والأفلامِ القديمة. إليها أعودُ إنعاشاً لذاكرةٍ مُرهَقَةٍ ومُراهِقَة.

(39)

تفتّحتُ مبكِّراً على مسيراتِ عاشوراء ولطْمِ الصدور. أُخبِرتُ أنَّ اللطمَ بهذه الطريقةِ تعبيرٌ عن ارتدادِ الألمِ إلى الداخل. لم أتخيّلْ خروجَ الألمِ من القلبِ وعلى طاعةِ النفسِ قَبْلَ تحوّلِ الحربِ شعاراً يهزأ من الحياةِ بخصالِ الموت.

(40)

لسنواتٍ خَلَتْ، تناوبَتْ صُحُفُ العالمَ على نشْرِ صورة واحدة تناقلتها في ما بينها. عادةً، لا تترُكُ الصورةُ الشخصيّةُ مجالاً للشكِّ في هويّةِ صاحِبِها، فما نراه هو اليقين. مع عماد مغنية، أصبحَ اليقينُ مُرادِفَ الشكّ في افتقارِ الصورةِ إلى ما يُثبِتُ صِحَّةَ نسَبِها إلى صاحِبِها.

بعد اغتيالِهِ، ظهرَتْ صورٌ أزالَتْ الاعتراضَ على شكلِهِ المزعومِ في صورةٍ سابقة. هكذا تُمحى الصورةُ بالصورةِ تأكيداً لصِحّتِها. عبرَ هذه الصورِ، بانَتْ حقيقةُ عماد مغنية، وإذ ارتبطَ نشرُهَا بخبرِ اغتيالِه، بدا الرجُلُ في موتِهِ وكأنه خارجٌ من غيابِهِ. في الغيابِ سحرُ الانتظار. هكذا أمضى عماد مغنية سَحابَةَ عُمْرِهِ متوارياً عن الأنظار. كذلكَ يعيشُ عشاّقُ السيِّد حسن نصر الله على وعدِ ظهورِه على الشاشةِ من بعدِ غياب.

(41)

في إحدى صورِه، تبادلَ عماد مغنية وحسن نصر الله الابتسامَ وجهاً لوجهٍ. أكثرَ من أمينٍ عام لحزب الله وقائدٍ عسكري، بدا الرجلان صديقين، السيّد حسن والحاج عماد، أو حسن وعماد فحسب.

(42)

في الثلاثين من عمري، تزوجتُ وأنجبتُ سبعةَ أولادٍ، بمعدّل ولدٍ كلّ ثلاثةِ أعوام؛ أكبرُهم يعملُ في ألمانيا وأصغرُهم عاطلٌ عن العمل. بناتي الخمس تزوّجنَ جميعاً. في رفقة زوجتي وابني الأصغر، أُنفِقُ الوقتَ. لا أنا ولا زوجتي حَجَجْنا. مع ذلك، ينادوننا في الحيّ كيفَك يا حاج! كيفِك يا حاجة! فجأةً صارَ الحجُّ أُحجيةَ حياتي. عليّ أن أتعوّد. وهذا ما أفعلُه يوميّاً.

(43)

تستولدُ الصورُ أطيافَها وكأنها التاريخُ أو شبهُهُ. على مشارفِ أحياءِ بُرج حمّود والنبعة، تستأنفُ أحزمةُ البؤس حياتَها وكأنها شريطٌ متواصلُ العرضِ في صالةٍ من الدرجةِ الثالثةِ يغالبُ روّادُها الحرَّ من تعطُّل أجهزَةِ التبْريد.

(44)

يَغيبُ الآباءُ، يؤتمنُ أبناؤهم على نَقْلِ سِيَرِهِم ولا ينُمُّ سرْدُ هذه السِيَرِ عمّا إذا كان الأبناءُ يتحدثون عن آبائهِم فحسب أم عن أحوالهِم أيضاً. أحياناً، يُشبهُ الآباءُ أبناءَهُم أكثرَ مما يُشبِهُ الآباءُ أنفُسَهُم.

(45)

في ذلك الصيف، زارَ السيّد ميم قريَتَه. رآها في دمارِها. خلافاً لما كانَ يخشاهُ عند مجيئِهِ، لم تحرِّك الزيارةُ شَجَناً مُسْتَتِراً في روحِه. أحالَ الخرابُ روحَه كتلةً من سكون. حَسْبُهُ أنْ يمشي. الصورةُ أمامَهُ والصوتُ خلفَه وبعيد.

(46)

بُحكمِ إقامتي الدائمةِ في بيروت، كانت جدّتي صِلَتي شِبهِ الوحيدةِ بالجنوب. أخذتُ عنها سخريتَها من كلّ شيءٍ ولو من نفسِها. اعتبرتُ ذلك سمةً جنوبيّةً لازَمَتْ حتى مسلحّي «أمل» في افتعالِهِم الحركاتِ الاستعراضيّةِ أمام الكاميرات. اشتياقي إلى جدّتي اشتياقٌ إلى روحِ دَعابةٍ حلّ مكانَها العبوسُ والحذرُ والتأفّفُ من عدساتِ المصوّرين.

(47)

10 كانون الثاني 2001، الإمام محمد مهدي شمس الدين يُفارقُ الحياةَ. نُشِرتْ وصاياه. في الصفحة الأربعين منها، ذَكَرَ أنّه كان هُناكَ حلمٌ لتحقيق مبدأ التوازنِ بين الطوائفِ راوَدَ فِئةً في الوسطِ المسيحيّ لَعلَّهُ إنشاءُ تحالفٍ شيعيّ - مارونيّ ولعلَّهُ أيضاً من السياسات الخفيّة للانتداب الفرنسي.

(48)

عامَ 1975، جَعلَتِ الحربُ من دخولِ السيّد موسى الصدر كنيسةِ الكبوشيّة في وَسَطِ بيروت حدثاً غيْرَ مكتَمِل. دار الزمنُ دورتَهُ ومِنْ كنيسةِ مار مخايل في الضاحيةِ الجنوبيّة، أعلنَ العماد ميشال عون والسيّد حسن نصر الله تحالُفَهُما في إطارِ وَرَقَةِ التفاهُم بين «التيار الوطني الحرّ» و«حزب الله».

(49)

ظلّت فكرةُ العَالِمِ عندي محصورةً في حائزي جوائز نوبل في الطبّ والفيزياء إلى أن أدركتُ متأخّراً أنَّ في وِسعِ رجُلِ دينٍ أن يُدعى عالِماً وأنَّ في مقدورِ طالبِ الحوزةِ الدينيّة في النجف أن يدخُلَ إليها شاباً ويخرُجَ منها في منتصفِ العمرِ لا بل في آخِرِه. اليومَ، صارتِ الحوزةُ حوزاتٍ، كَثُرَ الطلاّبُ، زادَ المُعمّمونَ وقلَّ العُلَمَاء.

(50)

لم تألَفْ جدّتي أن تقصّ عليَّ حكايةً قبلَ النوم. كان لديها من الأبناءِ والأحفادِ ما فاق مخزونَها من الحكايات. في قلبي الآن أمنيةٌ: أن أروي لها حكايةً قبْلَ إخلادي إلى النوم.

[1] النص المصاحب للفيلم الوثائقي «سحر الغائب»، كتابة وإخراج محمد سويد، عُرض على شاشة قناة «العربية» في شهر نيسان (ابريل) الفائت.