عندما تتخطى العتبة، وتترك باب المنزل وراءك، لن تنجو من لقاء أفراد كثيرين. البعض لا يهاب ذلك. حتى أنا، لا مشكلة لديّ إذا كان جلدي محصّناً، إذا كانت مسامُّه كلها متضامّةً وقادرةً على التصدّي. أمّا إذا كان يومها مثقوباً أو ملتهباً بفعل كلمةٍ وجَّهها إليّ أحدُهم، أو بسبب شِجارٍ مع أمّي، أصبح الخروجُ من المنزلِ عقاباً لي.
ما يحصّنُ جلدي، أغلب الأحيان، مغالاة الأشخاص في التعبير عن حبّهم لي، بصرف النظر عن مكانة المُعبِّر عندي، أو عن محبتي، أو عدم محبتي، له. فالمشاعر اللطيفة المبالَغ فيها تؤلمني بقدر ما تفعله المشاعر القاسية، مع فارق أن مسامّي تُغلق أمام الأولى، فيما الثانية تخترقها. لكن الحصانة الأمتن هي غير ذلك. هي تلك التي تتشكل بعدما يصرّح لي صديقي بنيّته تركي. في تلك اللحظات أغلِقُ مسامّي كلّها، من منبتِ شعري حتى أخمصِ قدميّ؛ أغلقها بسرعة قبلَ أن تتلقى الألمَ كلَّه. أُبقي الألمَ خارجاً. أجعل منه غيمة أتأبّطُها وأرحل.
أفكّر: كيف أُخرجُ الآخرين من جلدي؟ لا لِكونِ "الآخر هو الجحيم"، فأنا لا أظنّه كذلك. ثمّ إنّ السير في تلك الفكرة إلى آخرها، قد يوصلنا حتماً، كما في جميع النظريات، إلى احتمال معاكس. هكذا يصبحُ من الممكن أن يكون "الآخر هو النعيم". وهذا ما أشكّ فيه بقوة.
كيف أُخرجُ الآخرين، سألت نفسي حين عدْتُ إلى المنزلِ يومَ هجرَني صديقي. فعلت ذلك وأنا أُغلق مسامَّ جلدي، بعدما كانتْ قد انفتحَتْ. لا أريدُ أن أحبَّه رغم أنني مستعدّ لإعطائه حياتي لو استطعت، ورُغم أنّه لا يسألُ عني إلا إذا اتصلتُ أنا به. أرفعُ سماعةَ الهاتفِ، أضغطُ رقمه على أزرار الآلة وأتمنى له الموتَ في اللحظةِ نفسِها... أسألُ نفسي كيف أتعاملُ مع الآخرين من دون إعطائِهم فرصة الدخول من دون استئذان إلى جسمي؟. حتى مع الأطفال لا أُحسنُ التصرفَ. حتى هؤلاء مصدر اضطرابٍ لي. لا أُحسنُ فَهمَ ما يريدون ولا أجيدُ التواصلَ معهم. فعندما يسألني ابن أختي البالغ أربع سنوات: لماذا البحر أزرق، أو ما هي "الإنفينيتي" ـ الكلمة التي سمعها على لسان أحد كائنات ألعاب الكومبيوتر، أو لماذا عليه أن يأكلَ كلَّ يوم...، لا أعرف بماذا أجيبه. لو قلتُ له إنَّ لونَ البحر ليسَ بالأزرق وإنَّ الأزرقَ ليسَ إلا انعكاسَ لون السماء على مائِه، سألني حتماً: لكنْ لماذا السماء زرقاء...؟. بماذا أجيبه عندها، وكيف أشرحُ له علاقةَ الأكلِ اليومي بازديادِ طوله ووزنِه، وماذا يعني له قولي إنّه سوف يموت في حال لم يأكلْ، وماذا عن "الإنفينيتي"، كيف أشرح له هذه، هل أعترف له بأني أنا أيضاً لا أعرف معناها، هل أتذاكى وأُجيبُ بأنها النقطةُ نفسُها التي انطلقتُ منها، حين رسمتُ له الدائرةَ، كمحاولةٍ لتقريبِ مفهوم اللانهاية؟. كيف أقول له أشياءَ أنا نفسي لا أفهمُها أو أن دلالتها تبدو لي أكثرَ عبثيَّةٍ من السؤالِ نفسِهِ...؟.
الأشخاصُ الذين يُطمئِنونني والذين نادِراً ما يتسلّلون عبر مسامّي هم المسنّون. معهم يَسكن قلبي وأشعرُ بالارتياح؛ فقِدَمُهم في الحياة جعلَ عيونَ الناس تشيحُ عنهم، وهمْ كفّوا عن طرحِ السؤال. معهم أشربُ فنجانَ القهوةِ باللذة التي يشعُرُ بِها مَنْ يرْتشِفُها للمرة الأخيرة. حديثُهم عذْبٌ بسيطٌ، يتبادلونه بِهدوءٍ، متحاورين عنْ أنواعِ البنِّ المختلفةِ وعنِ الألذِّ بينَها، وعنِ الطريقةِ الفُضلى لصنع القهوة أو الوسيلة الأضمن للحفاظِ على صوفِ المِعْطفِ أو جلدِ الحذاءِ. حتى الموتُ لا يَتكلّمون عنه، هو الجالسُ دومًا إلى جانبهم. لا يسْتذكِرونَه خِشيَةَ إيقاظِهِم له.
للمسنينَ رائحة شحيحة، كشهيَّتهم للطّعام وإفرازاتِ مسامّهم التي غدتْ رائحتها كرائحة الأطفال. لا خصوصيَّةَ لها سوى أنّها تُعرِّفُ عنِ الجماعةِ التي ينتمي إليها هذا البدَن. المسنّون لا يشعرون بمسامِّ جسمِهم إلا حين يعتلّون، فهم أغلقوا شبابيكَ حواسّهم برفقٍ، دون سدِّها تماماً، وأحجموا عن رؤية الأشياء بوضوح وعن سماعها وتذوّقها. اكتفوا بأنْ يكونوا عُتقاً من وطأة الحواس على أجسادهم.
من النساءِ أحبُّ الجميلاتِ فقط. وهنّ ينسبن عبر جلدي غير مباليات بإرادتي أو بإرادة أي كان، وكأن دخولهن حقّ طبيعي لا يُشك في صلاحيته الأبدية. أحبُّ اللطيفات منهنّ وكذلك الوقِحَات. يُعجبُني اهتمامُهنَّ بمظهَرِ أظافرهِنَّ وبِلمعةِ شعورِهنَّ وبملمسِ بشراتِهنَّ. بل يعجبني اهتمامهن بالشعرةِ الواحدة التي قد يعتبِرْنَها زائِدةً على حواجبِهنَّ... تُعجبُني مبالغتُهنَّ في الاعتناءِ بأشياءَ قد تبدو لكثيرين ممن هم مِنْ جِنسي خَرْقاء تماماً. أما البشِعاتُ فلا أحبُّ منهنَّ إلاّ اللواتي لهنّ أصواتٌ جميلة حين يتكلمن. وقد يُلهيني عن بشاعة واحدتهن صوتُها فتراني أغورُ في تأملِّ الأسنانِ والشّفاهِ وفي إطباقِها على بعضِها البعض، وفي التداولِ الدائر بين التنفُّسِ والبلعِ والمسيرة التي يقطعها الصوت حتى يصير لفظاً. ثمَّ إنهمّ بتقلّصاتِ عضلاتِ الوجه والرقبةِ وانفراجاتها، وباليدين اللتين تتّسعان تارةً وطوراً تتضامّان باحثتين عنِ كلمة مناسِبة تعجز الذاكرة عن تحويلها إلى كلام. وأمامي تضمحِلُّ معالمُ المتحدّث ليغْدو طيفاً عُضْويّاً، أو ظاهرة طبيعية، وهكذا يستمرّ إلى أن يصمت ويستكين. عندها يسترجِعُ ملامحه وتسْتيْقِظُ صورَتُهُ تدريجياً وتدخل لحمَ بدنه منْ جديدٍ...
إنّ في نُطقِ الأشْخاصِ للأحرُفِ شيئاً ساحراً فعلاً.
لصديقي صوتٌ رقيقٌ أملسُ. وهو حين يتكلّمُ تخرجُ الكلماتُ من فمِهِ وكأنّها آتيةٌ من حُقولِ "أطلانتيس" الغابرة. فهو حين يقولُ "لمْ أنَمْ ليلةَ البارحةِ" أسمع "زُرقةُ السماءِ تؤلِمُ عينيّ"؛ وحينَ يقولُ "أعجبَني حذاءٌ أحمر"، أسمع أنا "اسْتَوَتْ حُبيباتُ الكرَزِ"؛ وحينَ يصمتُ أسمعُه يقول "زهرةُ اللوزِ تُصْغي الآنَ لتِشرين"؛ وحين يقول "أعطِني ماءً"، أسمع "أمطَرَتِ السماءُ ملحاً"... صوتُ صديقي بلسم جلدي.
أحياناً أتعقّبُ تحوّلَ جلدي المفاجِئ إلى مِصفاةٍ ذات ثقوب كبيرة، أحاول جاهداً سدَّها كي لا تتسرّبَ ذبذباتُ الآخرين منْ خلالِها. وحين تقتحمني بالرّغمِ عنّي، أشعُرُ بها تنسُج خيوطَها بيْتاً فيّ وغصْباً عنّي؛ وأَدْرَكُ نفسي وقد تحوّلت إلى عقرب مأسور داخلَ نسيجِه، لنْ يتحرّرَ مِنه ما لم يلسَع مَن حولَه... فألسَعُ أحدَهم وأخرج... هكذا دون ذرّةِ تأنيبِ ضميرٍ. أحزنُ طبعاً على الشّخصِ الذي لسعتُهُ، لكن ضميري لا يؤنّبني. فهو، ضميري، باتَ لا يحتمِلُ أيَّ اتهام بعدما حمّلَتْهُ أمّي أكثرَ من طاقته على التحمل.
باتَ جِلدُ يدي في الأيام التي تلتْ هَجرَ صديقي أشبهَ بِقشرة رمّانة ذابلة. احمرّ وجفَّ وتعَجّر ونبتَتْ على سطحِهِ طبقةٌ قرنيّة برزتْ منها بثورٌ صغيرةٌ مقزّزةٌ وبشعة. هكذا بتّ عندما أمررّ يدي عليه أشعرُ كأنني ألمسُ جلدةً ذاويةً لا حياةَ فيها، وبات وجودُ الحُبيباتِ الصغيرةِ يُزعجُني حتّى أنّي قرّرتُ حكّ جلدي حتى قشره. وأعلم علم اليقين أنّ الصديدَ الورديّ سوفَ يسيلُ منه وسوفَ تشتَعِلُ أعضائي كلّها في اللحظة التي أسلخُ عنها القشرةَ... لكنْ لا مفرّ. فأنا بتّ لا أحتملُ رؤيةَ العيونِ الحمراء الصغيرة تسعى في جسمي هكذا. عندما سلخْتُ قشرة جلدي انفقأت مياهُ الجلدِ التحتية وأحرقتني. لقد لسعتْني ونخَرَ الوجعُ لحمَ قلبي، ثم تمدّدتْ وتضخّمتْ أعصابُ حواسي لتنفذَ من جلدة رأسي. ولم تكتف بهذا فحوّلت ذرّاتِ الهواءِ إلى إبرٍ تغرزُ رؤوسَها في وجهي وفي جفوني وعلى منبتِ كل شعرةِ من شعري، إلى أن طفح جسمي كلّه والتهبتْ حواسيَ كافّة... ولم أنسَ.
وإذ بي أتصوّر كيف أنتقمَ منه، هو الذي طالما ضحّيْتُ من أجلِهِ بنفسي.
لقد قرّرتُ جلدَہ. بلى! جلده بالجنزير... حتى الموتِ.
لكن ها هي مسامّي قد بدأتْ تلتئمُ من جديدٍ وها هو جلدي قد هدأ وترطّب، فما لبثتُ أن نسيتُ حِقديَ عليه في اللحظة التي بدأ فيها جلدُ فخذي وبطني يستعيدُ ذكرى لمساتِه التي تذوبُ لها عظامُ كاحلي، وتذكرتُ أني أعطيه كليَتيَّ الإثنتين إذا ما احتاجَ إليهما يوماً!
في ذلك اليوم، اشتريت رمّانتين ورديّتي اللون، رقيقتي القشرة، ولكلّ منهما تاجٌ صغيرٌ على رأسِها، ثم اتجهتُ إلى منزلهِ. استقبلني برقّته الجارحة، وبصدره العاري الذي تركه هكذا لشدة الحرّ... ولإذلالي. كانت خصلة شعره الأسود الناعم قد نزِلت بلا مبالاة على جبينه. بدأ يقشّر الرمانَ ومعه جلدةَ كشحي. يسلخ الجلدة بأظافره المتّسخة أصلاً، فيما تبلّلت أصابعه الطويلة الناعمة بعصير الرمان. وتبعثرت الحبيبات الحمراء على باطن كفّه. قدّمها لي، عارضاً إياها على فمي. هكذا يفعل بي دائماً. هو لا يبالي بمشاعري.
طلبتُ منه أن يتوقف وأنْ يأكل الحبيبات بعدما أرحلُ. فَهِمَ على الفور مرادي، لكّنه لم يفعل ما طلبته منه، بل تابع، بلا مبالاة، تقشير الرمان ولعق العصير السائل على يده وساعده.
تركتُ منزلَ صديقي وذهبتُ إلى المحيط. قال لي إنّه لن يعودَ إليّ ولا جدوى منْ محاولاتي استرجاعه. لم تتفتّحْ مسامّي الملتهبَة على أيّ حال. فأنا كنتُ قد أعددْتُها لاستقبالِ هذا الجواب. مشيتُ على الرمل الخشن وكان الموج عالياً، أكبر ممّا تتحمّله نفسي وأعلى مما يستوعبه حجمي، وشعرتُ بذرّات ملحِ الهواءِ تتخلَّلُ شُعيْراتِ أنْفي، وبالموجِ يرتطمُ بوجهي، ثم بمسامّ جلدي يسدّها الماء، كما يسدّ المنافذ، كلّ المنافذ، أمام أيٍّ كان: لن يدخل أحد جلدي بعد الآن. أمّا الأزرق فهو انعكاس لون السماء على الماء ليس إلا.